2. النظريات المعرفية السياقية
3. النظريات المعرفية-السياقية
تحاول النظريات المعرفية - السياقية شرح السلوك الذكي من حيث السياق الذي يتم عرضه فيه. رغم أنَّ المعالجة المعرفية مهمة جدا في هذه النظريات، إلاَّ أنها تميل إلى اتباع النهج البيولوجي بصفة أكثر: يتم تحديد وتطوير بعض المهارات (وتشجيعها) انطلاقا من البيئة أو الثقافة. وبالتالي قد لا يكون هناك شيء اسمه الذكاء الشامل (Gardner، 2011). فالذكي أو الأذكياء هم المتوافقين مع البيئة أو الثقافة. لهذه النظريات نظرة أكثر شمولية من عديد النظريات المعرفية التي تطرقنا لها سابقا، فهي لا تميل إلى التركيز على العمليات المعرفية الفردية، وإنما على فئات العمليات أو أنواع الذكاء.
أ-نظرية التنظيم الثلاثي للذكاء (Robert Sternberg1977a, 1977b):
ينظر Robert Sternberg إلى الذكاء على أنه مجموعة من المكونات، "مجموعة واسعة من المهارات المعرفية وغيرها من المهارات" وهي في نفس الوقت قوية يوحّدها ما يسميه العمليات التنفيذية، فهذه النظرية تسعى إلى فهم الذكاء من خلال ثلاث نظريات فرعية؛
أ. نظرية فرعية سياقية تربط الذكاء بالمحيط الخارجي للفرد، وتتضمن هذه النظرية التكيف الهادف، واختيار وتشكيل بيئات العالم الحقيقي المرتبطة بحياة الفرد، ويتجلى ذلك في ثلاثة أنواع من الذكاء هي: الذكاء الأكاديمي، والذكاء العملي، والذكاء الابتكاري.
ب. ونظرية المكونات حيث تربط الذكاء بالبيئة الداخلية للفرد، ويرى أن َّ الذكاء يرتبط بالمكونات الداخلية للفرد، ويتألف من العمليات الأدائية والعمليات المعرفية الماورائية وعمليات اكتساب المعرفة
ت. ونظرية فرعية خبراتية (ذكاء الخبرة) تنطبق على كل من المحيط الداخلي والخارجي. ويقاس الذكاء هنا:
. بمدى توفر القدرة على التعامل مع المهمات والمواقف الجديدة (القدرة الابتكارية).
. القدرة على المعالجة الذاتية للمعلومات، وبأقل جهد ممكن (قدرة الاستبصار).
يرى Sternberg أن الذكاء يمارس في ثلاث مجالات: الخارجي (أو السياق)، التجريبي والداخلي. الذكاء هو نشاط عقلي، لكن كل جزء في النظرية يعتبره على علاقة بمجال مختلف.
السياق ببساطة هو البيئة الخارجية التي يشتغل فيها الذكاء، سواء داخل الصف الدراسي أو المكتب.. قد يستخدم نفس الشخص ذكاؤه بطريقة مختلفة في كل بيئة. أما التجربة أو الخبرة فهي المجال الذي يواجه فيه الأشخاص مواقف جديدة، وفيها البديهية والبصيرة والإبداع - وهي عمليات غير عقلانية لا تدخل ببساطة في الآليات العقلية المعتادة لمعالجة الصور، التي ترتبط بها الذكاء بالعالم الداخلي فرد، يتم جلبها على الذكاء من خلال الخبرة.
ب-نظرية الذكاءات المتعددة Howard Gardner 1983, 1999:
يقدم "هاورد جاردنر " في كتابه "إطارات العقل، نظرية الذكاء المتعدد" (1983) وجهة نظر جديدة ومختلفة عن الكفاءات العقلية البشرية. ويجادل بكل جرأة وقناعة بأننا جميعنا نولد مع إمكانية تطوير مجموعة من الذكاءات (Pal, Pal, & Tourani, 2005)
يرى جاردنر أنَّ البشر جميعا يمتلكون ثمانية ذكاءات متمايزة على الأقل، وهذه توجد على هيئة خليط نسبي مميز خاص بكل فرد. ويعرِّف الذكاء على أنه "القدرة على حل المشكلات، أو استحداث نتاجات لها قيمة في موقف ثقافي أو آخر" (Gardner, 2011) وبذلك يرفض مفهوم الذكاء بوصفه قدرة عامة، تشدد هذه النظرية على مجالات الذكاء، وبدرجة أقل على العمليات العقلية. ولكي يكون جزءًا من نموذج الَّذَّكاء المتعدد، يتعين على الذّكاء المرشح أن:
أ. يكون قابلا للعزل في حالة الإصابة الدماغية.
ب. يمتلك القدرة على التطور.
ت. يشمل مجموعة عمليات مركزية يمكن التعرف إليها.
ث. يطوِّع نظاما من التمثيلات الرمزية.
ج. يكون له تاريخ تطوري مع القدرة على الأداء الخبير.
ح. يكون ظاهرًا في أشخاص مميزين، مثل العلماء.
خ. يكون هناك دليل عليه في علم النَّفس التجريبي.
د. يكون مدعوما بدليل من البحث السيكوميتري. يتطور كل واحد من هذه الذّكاءات من خلال التفاعلات بين نزعات الفرد البيولوجية والفرص التي تتيحها بيئة الفرد. كذلك يصف جاردنر نوعين أساسيين من مظاهر الذّكاء، هما: الافراد ذوو المستوى العالي في نوع أو نوعين من الذَّكاء يطلق عليهم (أصحاب الملامح الليزريةLaser profiles) في حين يوصف ذوو التوسيع الأوسع (ذوو ملامح كاشفات ضوئية Searchlight profils).
الذّكاءات الثمانية لجاردنر:
- الذكاء اللغوي: أو الحساسية للغة الشفوية والمكتوبة، القدرة على تحليل المعلومات وإنشاء منتوجات تتضمن اللغة الشفوية والكتابية، مثل الخطابات والكتب والمذكرات.
- الذكاء المنطقي الرياضي: القدرة على التحليل المنطقي للمشكلات، وإجراء العمليات الحسابية والتحقق في القضايا بطريقة علمية
- الذكاء المكاني: القدرة على التعرف على أنماط المساحات المفتوحة والتعامل معها وادارتها.. بالإضافة إلى المناطق المحصورة.
تشبه هذه الأنواع الثلاثة من الذكاء، القدرات التي يمكن قياسها بوساطة اختبارات الذكاء التقليدية (ستيرنبيرج وكوفمان، 2015).
- الذكاء الموسيقي: الإحساس بخصائص موسيقية متعددة، والقدرة على تقدير النغمات، والألحان، والايقاعات، وإنتاجها، ومزجها
- الذكاء الحس- حركي: مهارة الفرد في استخدام جسمه
- الذكاء الشخصي: يشير إلى فهم الفرد لدوافعه ومشاعره، ونقاط قوته وضعفه.
- الذكاء الاجتماعي: فهم دوافع الآخرين، وتصرفاتهم ومشاعرهم والاحساس بها.
- الذكاء الطبيعي: التمييز الحاذق، وتصنيف الأنماط الطبيعية أو الأشياء المادية بحسب الفئات.
ج-نظرية مرحلة النمو لبياجيه Piaget: نظرية بياجيه هي نظرية نمائية تبحث في خصائص نمو الأطفال، في داخل هذه الخصائص يعالج موضوع الذكاء، فهو يناقش الذكاء في ضوء مكانه داخل مخطط النمو العقلي للطفل. وفي نفس الوقت هي نظرية معرفية لأنها تناقش عمليات التفكير، وسياقية لأنها تؤكد على دور البيئة في تحفيز النمو المعرفي (Gardner, 2011) نموذج بياجيه لنمو الذكاء هو نموذج نوعي، فالأطفال الأكبر سنا يعرفون أكثر من الأطفال الأقل سنا منهم، ويختلفون عنهم في معرفتهم. ويعرِّف الذكاء بأنَّه القدرة على التكيُّف العقلي مع المستجدات الراهنة"
التصور الذي وضعه بياجيه حول النمو العقلي جاء بعد دراسة طويلة، وهو انعكاس لاهتمامه الأول بالبيولوجيا والابستمولوجيا، حيث يفترض أن البشر يرثون اتجاهين أساسيين التنظيم والتكيف ( Gardner، 2011)التنظيم (ميل عام لتنظيم كل من العمليات الفيزيقية والنفسية في نظم متماسكة) وهذا الميل موجود سواء على المستوى البيولوجي أو النفسي، فالفرد في تفاعله مع العالم الخارجي يميل إلى أن تتكامل أبنيته النفسية في نظم متماسكة، فمثلا، يكون لدى الطفل الصغير القدرة على النظر للأشياء أو القدرة على القبض عليها، كل قدرة منهما مستقلة أو منفصلة عن الأخرى. ولكن بعد فترة من النمو، ينظم الطفل هذه الأبنية المنفصلة في بنية ذات مستوى أعلى، تمكنه من أن يقبض على شيء معين وينظر إليه في نفس الوقت. فالتنظيم إذن هو ميل مشترك في كل أشكال الحياة، والاتجاه الثاني هو التكيف (ميل لتمثّل وملاءمة البيئة)، وبما أن عملية الهضم البيولوجي تحول الطعام إلى شكل يمكن أن يستخدمه الجسم، يعتقد Piaget أن العمليات العقلية تحول الخبرات إلى شكل يمكن للطفل استخدامه في التعامل مع مواقف جديدة، فكل خبرة لدينا (أطفال مراهقين أو راشدين)، تؤخذ في العقل ويتم إعدادها بحيث تتسق أو تدخل في الخبرات السابقة الموجودة هناك، والخبرة الجديدة تحتاج لأن تعدل بدرجة ما، لكي يمكن إدخالها في البنية المعرفية القائمة. وبعض الخبرات لا يمكن تمثيلها، لأنها لا تلائم البنية (الشيخ، 2014) ومعنى هذا أن العقل يتمثَّل أو يستوعب الخبرات الجديدة عن طريق التغيير فيها. بحيث تلائم البنية التي تم تكوينها وسمَّها بياجيه المخططات. وفي هذا يقول بياجيه "الذكاء هو تمثيل بالدرجة التي يستوعب فيها كل بيانات الخبرة المعينة في إطاره الخاص" (الشيخ، 2014) كذلك تتأثر الأبنية العقلية القائمة بالبيئة التي يشتغل فيها العقل. فعملية التمثيل تحدث أثناء استقبال خبرات تكون مرت بالفرد من قبل، بمعنى عملية التمثيل تحدث كلما استجاب الفرد في موقف جديد كما فعل في مواقف مشابهة سابقا، لكن يحدث أن يتعرض لمحفزات بيئية (خبرات جديدة)، لم يسبق له أن مرَّ بها أو تعرض لها، وهذا يمكن أن يتسبب في ملاءمة الطفل للمؤثرات من خلال إنشاء مخططات معرفية جديدة أكثر تطوراً تتناسب بشكل أفضل مع البيئة. فإذا كانت عملية التمثل هو تفسير المؤثرات الجديدة وغير المعتادة في ضوء المخططات القديمة أو الحالية، فإن عملية الملاءمة تعني تعديلا في المخططات المعرفية عن العالم، حتى يمكن له استيعاب الخبرات الجديدة (الشيخ، 2014). يُنظر إلى الطفل على أنه يتطور من خلال مراحل معقدة متزايدة، المرحلة الحسية الحركية (0-2 سنوات) ، مرحلة ما قبل العمليات العقلية (2-7 سنوات)، مرحلة العمليات المحسوسة (7-11 سنة) مرحلة العمليات الشكلية أو الذكاء المجرَّد (11 + سنوات).
الظاهر أن نظرية بياجيه لا تعالج الذّكاء من منظور القياس النفسي، فإنها تعالج بالتأكيد تطور الآليات المعرفية التي تكمن وراء الكثير من الاستدلال المجرّد وحل المشكلات. وهي تنظر إلى الفرد على أنه شخص يتفاعل مع البيئة، ويسعى جاهداً لجعل أفكاره (أو مخططاته) تتماشى مع التجربة. وهو يجعل الادعاء القائل بأن جميع الأفراد يمرون خلال المراحل بنفس الترتيب قويَّا، مع عدم تخطي أي "مرحلة" إلى مراحل أعلى. في حين انتقد العديد من الباحثين الأعمار التي حددّها بياجيه لتحقيق مهارات خاصة، إلا أن القليل منهم انتقد قدرة نظريته على وصف اكتساب الأطفال التدريجي للفكر المعقد.