النثر العربي القديم تاريخيا وجغرافيا

Site: Plateforme pédagogique de l'Université Sétif2
Cours: النص الأدبي القديم -نثر- أ.أونيس
Livre: النثر العربي القديم تاريخيا وجغرافيا
Imprimé par: Visiteur anonyme
Date: Sunday 1 September 2024, 07:17

Description

تعتبر هذه المحطة بمثابة صلب موضوع الوحدة الأولى

يمثّل النثر العربيّ القديم مادّة نصّيّة غنية وخصبة، فأمّا وجه غناها فيتمثّلُ في حجم المادة النثرية وتعدد مباحثها، واختلاف أجناسها، وتباين أنواعها. ولعلّ النصوص النثرية المدوّنة التي وصلتنا بدءاً من الجاهلية إلى القرن السابع الهجري تفوق مثيلاتها في الحضارات واللغات الأخرى. لقد عرف التراث الأدبيّ العربيّ أجناساً نثرية عدة فبدءاً بالأمثال، وسجع الكهّان، والخطابة، والمنافرات، والمراسلات، والوصايا، والأخبار، والقصص، وقصص الحيوان، وقصص العشّاق، والقصص الفُكاهي، والقصص الدينيّ، والقصص الصوفيّ، والطُّرف، والنوادر، والحكايات، والمقامات، والمنامات، ومراسلات الخلفاء والولاة والقضاة، ومروراً بالحِجاج، والمناظرات، والمقابسات، والمساجلات وانتهاء بنصوص الرحلات، وأدب السّيرة، استطاع التراث الأدبيّ العربيّ إعادة النظر في سجل معارفه ومنظومة بيانه.

وأمّا وجه خصوبة مادة النثر العربيّ القديم فيرجع إلى تعدد الأطر والمجالات الموضوعية التي عالجتها النصوص، فقد استطاع النثر العربيّ القديم مقاربة موضوعاتٍ ومفاهيمَ لم يتمكّن الشعر العربيّ من مقاربتها وتناولها. والناظر في نصيّات النثر العربيّ القديم يكتشف ثراء مفاهيمها المعرفية؛ إذ استطاع النثر العربي القديم مُعالجةَ القضايا الاجتماعية، والسياسية، والدينية، والمذهبية، والأدبية، الأمر الذي يدل على أهمية الناثرين والنثر في رصّ صفوف المجتمعات، وإقامة التنظيمات الاجتماعية، والحفاظ على البنى السياسية والدينية والاجتماعية والعقائدية.

أ‌.    النثر لغة واصطلاحا:

ورد ت لفظة "نـــثر" في معجم  اللّسان: «النثرُ نَثــــــرُكَ الشيءَ بيدِك ؛تَرمِي به مُتفرِّقا "(لسان العرب مادة نثر).مثل نَثْر الجُــــوز واللُّوز والسّکر وکذلك نثر الحبّ إذا بُذِر». فالمعني اللّغوي يعني الشـــــيء المُبعثر ،المــــــتفرّق) الذي يتوزّع بشكل عشوائي ولا ينتظم في هيئة واحدة بحال من الأحوال ، أي: لا يقـــــــوم علي أساس من حيث الکــــــيف والکمّ والاتّساع ومجال الحرّية والاختيار فيه أكبر، مثله مثل تفريق الدراهم على العــروس في العادات والتقاليد أو تبعثُرِ أوراق الأشجار في فصل الخريف وغيرها ،وقد يأتي بمعنى تفريق شيءٍ كان مُجتمعا.

ب‌.  النثر اصطلاحاً:

هو الکلام الذي لا يتقيّد بوزن وقافية ويعتمد على خطاب العقل والمـــنطق والطرح الفكري وتسلسله،و بتعبير آخر: النثر قديما هو کلام مُستــرسلٌ مسجوعٌ، وهو أساس الكلام وجُلُّه،قال ابن وهب :"والمنثور هو الكلام"(البرهان في وجوه البيان) وعرّفه ابن سنان بحدِّ الكلام فقال:" الكلام عندنا ما انتظم من هذه الحروف التي ذكرناها أو غـــــــــــرها" (سرّ الفصاحة) وقال ابن خلدون :" هو الكلام غير الموزون" (المقدمة) ووضــــعوه إزاء النظم وقد يطلق على اسم "المنثور" و"النّثير" الذي وضعوه إزاء المنظوم (البيان).

والنثر هو الأصل  في الكلام ولم تتكلّم العرب أوّلا إلّا بهِ، فهو أسبق من الشعر،ولم يصل من العرب القدماء إلّا القليل منه، وقد قيل :" ما تكلــــمت به العرب من جيّد المنثور أكثر ممّا تكلّمت به من جيّد الموزون،فلم يحفظ من المنثور عشره ولا ضاع من الموزون عشره."(العمدة).

وكان النثر يستعمل في أغراض محدودة وتوسّع العرب فيه فأـصبح ألوانا كثيرة وقد قسّمه ابن وهب إلى خطابةٍ وترسّلٍ أي رسالة واحتجاج وحديث،ونافس النثر الشعر بهذا التوسع وأصبح يعبّر عن مختلف الفنون والأغراض وسلب الشعر الكثير من أغراضه وفنونه"(معجم مصطلحات النقد القديم ،د/ أحمد مطلوب ص422/423.

وهو علي ضربين منه النثر العادي الذي يقال في لغة التخاطب اليومي، وليست لهذا الضرب من النثر قيمة أدبية إلا ما يُضرَبُ فيه أحيانا من أمــــــــــــثال وحکم، وأما القسم الثاني فهو النثر الذي يرتفع فيه أصحابُه إلي لُغة  مميّزة فيها من الفن والفصاحة والمهارة ما يجلب الانتباه ويمتّع الذائقة الجمالية، وهذا الضرب هو الذي يُعنى  به النّـــقاد في اللّغات المختلفة  ، فيقومون بالبحث فيه ودراسته  وجمعه ،قصد تصنيفه وتبيان ما مــــــرّ به من أحداث وتطوّرات ، وما يمتاز به في کل مرحلة من صفات وخصائص، وذلك عبر المقـــــــارنة والموازنة سواء من حيث الفترات الزمنية أو الأنواع الأدبية وما لحق بها،وقد ورد منه  في القديم الخبر والجانب القصصي ، و الخطابة والکتـــــابة ،والرسائل الأدــبية أو ما يُسمّى بالنثر الفني .

بعد أن أشــــرنا سابقا إلى الغموض الذي يكتــنف البدايات الأولى في الشعر الجاهلي لتأخّر تدوينه فإنّ الأمر نفســـه يتكرّر بالنسبة للنثر أيضا،فهو موضوع خلاف شديد،لانّه نشأ أيضا ضمن ثقـــافة شفوية سماعية من جـــهة،ولم يصــــل إلينا إلّا القـــليل بعــــد تدوينه في العصور اللاحقة(القرن2 ﻫ) من جهة ثانـــية، ممّا يفتح باب التساؤل عن وجود نثر فنّي عند العرب في العصر الجاهلي الذي يعدذ نواة ميلاد النثر العربي عامة، لا سيما وأن ّ العرب كانوا يحييون حياة بدائية شديدة الارتباط بالبيئة ،بالعالم المـــــحسوس من حولهمن ممّا أضنى دواعي القول النثري لديهم، ومع ذلك لا يمكن أن ننفي بشكل كلّي وجوده،على اعتبار أنّ الأمـــــــّة العربية كانت أمّة بيان كما وصفها القرآن الكريم،وإذا كانت تنجب شعراء كبارا مثل أصحاب المعلــــّقات فكيف تعجز عن إنجاب فرسان القول النثري؟فلا ريب أنّ العرب اتّخذوا النثر الفني وسيلة من وسائل البيان للتعبير عمّا يختلج في أنفسهم ، غير أنّ الغالب عليه هو الأسلوب المسجّع ، لموافقته ما ورد في القرآن الكريم من ذكر الكهّان وأساليبهم ،لقوله تعالى:" فذكّر فما انت بنعمة ربّك بكاهن ولا مجنون،أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون" (الطور 29/30).وقد أورد أنيس المقدسي في كتابه :" تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي" نموذجا للاستدلال مأخوذ من كتاب الأمالي لأبي علي القالي،فيه حديث عن الكاهنة زبراء مع قومها بني رئام،إذ قالت تحذرهم من الأعداء، :" يا ثمرة الأكباد ، وأنداد الأولاد، وشجا الحسّادِ، هذه زبراء، تخبركم عن أنباء،قبل انحسارِ الظلماءِ، بالمؤيّدِ الشّنعاء، فاسمعوا ما تقول: قالوا وما تقولين يا زبراء؟ قالت واللّوحِ الخافق، واللّيل الغاسق، والصباح الشارق، والنجم الطارق، والمزن الوادق،إنّ شجر الوادي ليأدوا خُتلا،ويحرقُ أنيابا عُصلا،وإنّ صخر الطودِ لينذر ثكلا،ولا تجدون عنه مَعَلا" (أنيس المقدسي: تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي،ص14/15) وإذا صحّت نسبة هذه النماذج لفترة ما قبل الإسلام فهي تدلّ على حسن الصياغة ومتانة السبك و قوّة ألفاظها وتناسبها ،ولعلّ موقف القرآن من هذه الأساليب النثرية المسجوعة بالرفض، هو الذي عجّل باندثارها وعدم حفظها وروايتها لاحقا ممّا قلّل من حظ النثر في منافسة القول الشعري على صعيد الممارسة والتنظير ،وفتح الباب للزيادة والنقصان فيه.

اختلف النقاد والمؤرخون حول مسألة النثر الفني في  بدايات الأدب العربي  بين مقرّ بوجوده وبين جاحد لذلك، فمعظم أهل الاستشراق ومن سار على نهجهم يميلون إلى نفي النثر عن فترة ما قبل الإسلام ، مع أن القرآن الكريم يقرّ صراحة ببلاغة العرب وفصاحتهم  ومقدرتهم على البيان ،ولوكان العرب من غير أهل البلاغة فكيف توصّلوا إلى تذوّق النص القرآني واعترفوا بتميّزه وقوّة أساليبه،غير أنّ ما يؤخذ عن العرب قدامى ومحدثين أنّهم لم يولوا  النثر أهمية كبيرة في تحديد ماهيته والتأصيل له، واشتغلوا بمسائل فرعية، مثل الأسبقية في الوجود ومسالة المفاضلة بينهما،وهي مسائل تستهلك جهدا كبيرا من غير فائدة كبيرة.

- المستشرقون يرون أن العرب في الجاهلية كانوا يعيشون حياة بدائية بسيطة ، لا تساعد على نشوء النثر الفني ، فالتفكير والعقل يرتبطان عادة بمسائل كبرى وقضايا معقّدة وأطارح مجرّدة ، وهو ما لم يكن مـــألوفا عند العرب الذين مالوا إلى لغة الــعواطف والتخيّلات والأوهام لبساطتها وملائمتها لطبيعة الحياة لديـــهم والمُيولات الفـــطرية والعقلية لهم آنذاك،ولسهــــولة حفــــظها في الـــــذاكرة واستحضارها وقــــت الحاجة، كما أن الإنسان العربي اهتـــمّ بذاته ومراقبة الظواهر الطبيعية ولم يتجاوزها إلى الاهتـــــمام بالمجتمع وقضاياه الكبرى، وهذا ما اشار إليه فيليهم ألفرت wilhelm Ahlwardt بقـــوله :" إنّ الإنسان العربي تهمّه ذاتيته ،وأنّه لم يستطع أن يخرج من قمقم الذاتية، فهو لم يكن مؤهّلا لفــــــهم الظروف والأشخاص وتصويرها ،فالإنسان العربي ينحصر في ذاته ، ولذلك فهو يعــــــــيش وجوده الذاتي وحسب، وهو في أعماله وأفكاره ينطلق من ذاته ويعود إليها

فهو يكتفي بزخم الحاضر وإنّ الماضي بالنسبة إليه عبارة عن فعل حدث وانقضى".

فالإنسان العربي تعوزه النظرة الكلّية للأشياء بل يتتبع الجزئيات فقط، حيث يقول ألفرت أيضا :" إنّ الإنسان العربي مشــغوف بعالم المرئيات أو الظواهر وهو لا ينظر إلى الأشياء نظرة كلّية وإنّما هو مشغوف بالجزئيات ،فهو لا يملك فهما كلّيا إطلاقا ،فالعربي تعوزه النظرة الموضوعية ، ولذلك فهو يفقد التعمّق الذاتي في مركز المادة التي يتعامل معها."

وغياب الفكر والنظرة الكلّية والماضي بحمولته الثقافية والمعرفية يصعب من إمكانية ميلاد نثر فني في تلك الفترة الزمنية، وهو ما يذهب إليه بعض المحدثين مثل طه حسين وزكي مبارك وغيرهم، وممّا لا شكّ فيه أن النثر الجاهلي إن وجد لم يصل إلينا لعدم العناية بروايته ولاشتغال العرب بالقرآن الكريم، كما أنّ هذا النثر القليل الذي وصل إلينا قد يعطينا صورة عن ذلك الفن الأدبي على الرغم ممّا لقيه من إضافات وتغيير فيبعض عباراته ومعانيه وأصوله، ويمكن تصنيف هذاالنثر في نمطيين رئيسيين:

أوّلهما المثل والحكمة : ويميل فيهما القائل إلى الإيجاز وبعض الصور البيانية ، ويعمد إلى نقل الخبرات والتجارب.

الخطب والوصايا والمحاورات والمنافرات والمناظرات التي تتطلّب شروطا في الكاتب وموضوعات كتابته.