المحاضرة الرابعة : الفكر التربوي عند ابن خلدون :

Site: Plateforme pédagogique de l'Université Sétif2
Cours: الفكر الخلدوني
Livre: المحاضرة الرابعة : الفكر التربوي عند ابن خلدون :
Imprimé par: Visiteur anonyme
Date: Friday 10 May 2024, 08:11

Description

يعتبر الفكر التربوي الخلدوني من اهم الاسهامات العلمية في الفكر التربوي الى يومنا هذا 

1. مقدمة :

ابن خلدون العالم الاسلامي واضع المقدمة صاحب علم العمران والمؤرخ والفيلسوف والمربي افرد فصلا كاملا في مقدمته لشرح التربية و اساليبها وخصائص المعلم وطالب العلم سابقا علماء عصره في صبغ التربية بالصبغة الاجتماعية وهو ما يتداوله علماء التربية الحديثة ، لذا لابد من معرفة الافكار التربوية لابن خلدون ولا سيما انه عالم اسلامي يمثل تراث التربية الاسلامية .

1.1. افكار ابن خلدون التربوية :اولا

تكلم ابن خلدون كثيرا عن التعليم ، فتكلم عن تعليم العلوم وتعليم الصنائع او تعليم اللغة دون ان يذكر التربية وان يتناولها بالتعريف وكانه يتكلم عن امور اعتيادية لا تحتاج الى تعريف ، الا انه تطرق الى مسائل تربوية دون تسميتها بمسماها الخاص فمثلا : يقول في فصل الرحلة لطلب العلم " ان البشر ياخذون معارفهم و اخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل تارة محاكاة وتلقينا مباشرة ، الا ان حصول الملكات من المباشرة والتلقين اشد استحكاما و اقوى رسوخا " .
وعلى الرغم من عدم تسمية التربية بمسماها ، الا ان كتاباته ولاسيما مقدمته الشهيرة لا تخلو من النظريات التربوية فمثلا نلاحظ تركيز ابن خلدون على نفس المتعلم بمعنى ان الانتقال في التعلم لا يكون فكريا فقط و انما ايضا خلقيا .
بهذا يقرن ابن خلدون المعارف بالاخلاق و الفضائل ، ويبين مصادر اكتسابها اما عن طريق الفكر او المحاكاة والتلقين او من التعليم الى الممارسة المباشرة .
كذلك ربط ابن خلدون التعليم بالصنائع فالصنائع في راي ابن خلدون تكسب صاحبها عقلا فريدا وبين ابن خلدون اهمية العقل واكتسابه للصنائع والمعارف وزيادة الادراك للمعارف الاخرى اذ يوضح انه كلما اكتسب الانسان معرفه زاد ادراكه للعلوم الاخرى ، كذلك وضح ابن خلدون اهمية بعض العلوم وتفضيلها على بعض
مثال :

ركز ابن خلدون على اهمية الكتابة ويقر في فصل الخط والكتابة الوارد في مقدمته اذ يقول ان :
" ان الكتابة اكثر افادة لزيادة العقل وتقوية ملكات الادراك والانتقال "
وذلك لان في الكتابة حسب رايه انتقال من الحروف الخطية الى الكلمات اللفظية في الخيال ومن الكلمات اللفظية في الخيال الى المعاني التي في النفس فيحصل لها الانتقال من الادلة الى المدلولات وهو معنى النظر العقلي الذي يكسب العلوم المجهولة فتكون بذلك زيادة للعقل ويحصل
  بها فطنة وكياسة في الامور .

1.2. العلم في العمران البشري :ثانيا

اعتبر ابن خلدون ان العقل هو منبع العلوم ولم يعتبرها مسالة فقهية كغيره من علماء عصره ، و انما العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري فيقول في ذلك  
 : " ان الانسان تميز عن الحيوانات بالفكر الذي يهتدي به لتحصيل معاشه والتعاون عليه بابناء جنسه ، والاجتماع المهيا لذلك التعاون ، وقبول ما جاءت به الانبياء عن الله تعالى
والعمل به و اتباع صلاح اخراه ، فهو مفكر في ذلك كله دائما ، لا يفتر عن الفكر فيه طرفة عين بل اختلاج الفكر اوسع من لمح البصر وعن هذا الفكر تنشا العلوم والصنائع "
وبذلك ينظر ابن خلدون الى التعليم من زاوية عمله الاجتماعي ، اذ لاحظ ابن خلدون ان الجيل الناشئ يتشوق الى تلقي العلوم والمعارف من الجيل الذي سبقه فرد بذلك منشا العلم الى الواقع الاجتماعي ، كذلك الحال بالنسبة للاداب والصنائع .
ولم يكتفي ابن خلدون بتقرير منشا العلوم بنزعة اجتماعية و انما اكد ان التعليم يتاثر باحوال المجتمع ، حيث يتقدم التعليم و يتاخر وفقا لاحوال المجتمع كذلك الحال بالنسبة للصنائع فيقول :
" ان الصنائع انما تكمل بكمال العمران الحضري وكثرته "
والسبب يعود في ذلك حسب راي ابن خلدون الى :
اولا : ان الناس ما لم تستوفي العمران البشري وتمدن المدن فيكون همهم الاول تحصيل المعاش و الاقوات ، فاذا ما تمدنت المدن وتزايدت الاعمال حينئذ ينتقل الناس الى الكماليات وبهذا يكون ابن خلدون قد سبق ماسلو في تصنيف الحاجات الانسانية .
ثانيا : ان الصنائع والعلوم هي للانسان من حيث الفكر يتميز بها عن الحيوان ، فالقوت له حيث الحيوانية والغذائية ، وهي مقدمة على العلوم لاهميتها ، والعلوم متاخرة عن الضروري وبحسب جودة العمران تكون جودة الصنائع استجابة لما يطلب منها من دواعي الترف والثروة .
ويستشهد ابن خلدون في ذلك باهل بغداد وقرطبة اذ يقول : " واعتبر بحال ما قررناه بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفه ، لما كثر من عمرانها صدر الاسلام واستوت فيه الحضارة ، وكيف زخرت فيها بحار العلم وتفننو في اصطلاحات التعليم ........ولما تناقص عمرانها انطوى ذلك البساط بما عليه جمله وفقد العلم بها والتعليم "

2. 1- أن كثرة التآليف في العلوم عائقة على التحصيل

يقرر ابن خلدون أن العقل الإنساني يشوبه القصور, وأن مراتبه تختلف باختلاف البشر, وخاصة في المراحل الأولى من حياة الإنسان, وقد ذكر أن عقل الإنسان لا يستطيع أن يستوعب العلوم التي تكثر فيها المصطلحات والمؤلفات وقد ذكر في المقدمة "اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التآليف واختلاف الاصطلاحات في التعليم, وتعدد طرقها, ثم مطالبة المتعلم باستحضار ذلك" ويقصد ابن خلدون هنا, كثرة المؤلفات والمصطلحات في العلم الواحد, بحيث يؤدي ذلك إلى نفور المتعلم من التعليم, وابن خلدون يهدف إلى التيسير علم المتعلم وبالخصوص في بداية عهد الطالب بالتعليم.
ومن الدوافع لدى ابن خلدون لكتابة هذا الفصل كثرة طرق التدريس في عهده, حيث انتشر في عهده الطريقة القيروانية والمصرية والبغدادية والقرطبية وغيرها. وكان المطلوب من الطالب أن يميز بين هذه الطرق, لدرجة أنها أصبحت هي المقصودة بالتعليم وهذا خطأ كبيرة فالطرق وسيلة وليست غاية. وفي ذلك يقول ابن خلدون "ثم إنه يحتاج إلى تمييز الطريقة القيروانية من القرطبية والبغدادية والمصرية, وطرق المتأخرين عنهم والإحاطة بذلك كله, والمتعلم مطالب باستحضارها جميعها وتميز ما بينها, والعمر ينقضي في واحد منها"  مما تقدم يظهر لنا أن ابن خلدون نادى بمراعاة قدرات الطلاب, وأن لا نثقل عليهم بما هو فوق طاقتهم, وأن يتم التعليم بيسر وسهولة حتى يقبل الطلاب التعلم, وتزيد الدافعية لديهم, وأن لا يكون التعليم منفراً لهم. وهذا الذي تنادي به التربية الحديثة, وقد ظهرت النظريات المتعددة التي تنادي بمراعاة الفروق الفردية بين الطلاب, كما ظهر مبدأ التدرج في التعليم, والانتقال من السهل إلى الصعب ومن المحسوس إلى المجرد .

3. 2- عدم إشغال المتعلم بعلمين في وقت واحد :

إن تعليم الطلاب علمين في وقت واحد, يشغل الطلاب ويعرضهم للفشل والإحباط, وذلك لأن عقل الإنسان محدود, وغير قادر على الإحاطة بأكثر من علم في وقت واحد, وفي ذلك يقول ابن خلدون "أن لا يخلط على المتعلم علمان معاً, فإنه حينئذٍ قلّ أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر, فيستغلقان معاً ويستصعبان, ويعود منهما بالخيبة, وإذا تفرغ الفكر لتعلم ما هو بسبيله مقتصراً عليه, فربما كان ذلك أجدر بتحصيله
كما أنه نادى أن يتم تعليم القراءة والكتابة ثم الانتقال إلى تعليم القرآن الكريم وحفظه وفهم معانيه, وهو ينتقد المعلمين في عصره لأنهم يصرون على تحفيظ المتعلمين الصغار القرآن الكريم, قبل تعلّم القراءة والكتابة ويقول أن القرآن الكريم هو كتاب الله, وليس لنا أن نقلده, وليس له تأثير في اللغة قبل أن يفهم الناشئة معانيه ويتذوقون أساليبه, ويدركون مقاصده, ويكون ذلك بتعليمهم مبادئ القراءة والكتابة, وليس العكس مراعاة للترتيب المنطقي . كما أن تركيز ابن خلدون على حصر التعلم في علم واحد, في الزمن الواحد, يؤدي إلى تمرين العقل, ثم يتقبل العلوم الأخرى بسهولة, ويقول علماء التربية في ذلك أن تدريب العقل بمادة من المواد يجعله قادراً على التفكير في المواد الأخرى ويمكنه في الإجادة في كل مادة, وهذا بسبب انتقال أثر التدريب من هذه المادة إلى المواد الأخرى

4. 3- التدرج في تدريس العلوم للمتعلمين :

وهذا من الأشياء التي نادى بها ابن خلدون, وذلك بأن يبدأ المعلم مع طلابه بالبسيط الذي يقبله عقله, ثم يتدرج معهم مستخدماً التكرار مع استعمال الأمثال الحسية, وبذلك يتم للمتعلم الحصول على العلم ويقول ابن خلدون في ذلك "اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريج"  وقد ذكر الحصري  أن ابن خلدون قرر ثلاث قواعد عامة للمعلم وهي :
1-على المعلم أن لا يخلط مباحث الكتاب الواحد بكتاب آخر .
2-أن لا يطيل الفواصل بين درس وآخر .
3-أن لا يخلط على المتعلم علمين معاً .
ونلاحظ أن ما قاله ابن خلدون لا يختلف عما ينادي به علماء التربية في الوقت الحاضر, من كيفية التعامل مع المتعلم وخاصة في المراحل الأولى, حيث نادى بالاهتمام بالمعاني العامة, والابتعاد عن التفاصيل, واستخدام الأمثلة الحسية, وفي ذلك يقول "يكون المتعلم أول الأمر عاجزاً عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب وبالإجمال وبالأمثال الحسية"
كما أن التكرار الذي طالب به ابن خلدون بقوله "يحصل العلم في ثلاث تكرارات, وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه"  , هو ما تنادى به التربية الحديثة وقد ذكر ناصر , أن المتعلم إذا كرر عملاً معيناً فهذا يسهل عليه التعلم,كما أن تكرار العمل عدة مرات يكسبه نوعاً من الثبات, ويستطيع المتعلم أن يصحح الأخطاء إن وجدت .
كما أن التجارب الحديثة تدل على أن الاستمرار في تكرار ما تعلمناه يساعد على ثباته في الذهن, وبعض التجارب تقول أننا ننسى حوالي 60% من المواد التي يتم تعلمها في حالة عدم التكرار

5. 4- عدم الشدة على المتعلمين :

لقد انتقد ابن خلدون أسلوب العقاب الذي كان سائداً في عصره, وطلب من المعلمين استخدام الرحمة واللين مع الطلاب فقال: "ينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبد في التأديب" , واعتبر أن مجاوزة الحد في العقاب له أضرار على الطلاب ويعمل على إفساد أخلاقه, وبذلك لا يتحقق الهدف من التعليم, ويقول "من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر, وحمل على الكذب والخبث" .
وهذا القول لابن خلدون يظهر رأيه في العقاب, حيث يرفض الشدة على المتعلمين, لأنها مضرة بالمتعلم وتعمل على إفساد أخلاقه وتؤثر على شخصيته, وتعمل على إكساب المتعلمين سلوكيات غير مرغوب فيها. وتزيد القلق والتوتر والخوف في نفوسهم, وقد أشارت دراسات علماء النفس إلى أنه في حالة عدم تمكن الطفل من التخلص من التوتر النفسي, فإن ذلك يؤدي إلى العدوان والانحراف السلوكي, وقد يؤدي إلى الكذب والسرقة والهروب من المدرسة وغير ذلك من مظاهر الجنوح , ومن النظريات الحديثة التي تطرقت إلى الابتعاد عن الشدة على المتعلمين واستخدام الثواب كعامل من عوامل التعزيز, نظرية ثورنديك وفحواها أن الإنسان إذا اقترن عمله بما ينشرح له صدره كالثواب تمكن هذا العمل في نفسه ورسخ في ذهنه, أما إذا اقترن عمله بما ينقبض له صدره كالعقاب فإن هذا العمل لا يتمكن في نفسه ولا يرسخ في ذهنه وذلك على اعتبار أن الإنسان يميل بطبيعته إلى ما يسره, ويتجنب ما يسؤوه
ومع أن ابن خلدون عارض الشدة على المتعلمين للآثار السلبية, إلا أنه لم يدعو إلى التسامح الكلي مع الأطفال فقد أباح العقاب البدني في الضرورة القصوى وبما لا يزيد على ثلاثة أسواط, بشرط أن يكون العقاب آخر العلاج, وبعد استخدام الترغيب والترهيب والتوبيخ والعزل والإهمال, إذن العقاب البدني مباح لتعديل سلوك معين ولكن في أضيق الحدود, وكوسيلة لردع الطلاب من الوقوع في الأخطاء, ويجب أن يتفاوت في شدته حسب الذنب المرتكب, ويقول يوسف  أن العقاب من ضرورات التربية, ولكن يجب أن يختلف في شدته ونوعه حسب الذنب, لأنه نوع من الألم مقصود لذاته , لكي يشعر به الذي قصّر أو أهمل, فلا يعاود ما عمله سابقاً, فهذا الرأي لابن خلدون في عدم الشدة مع الطلاب يوافق مع ما يذكره علماء التربية وعلم النفس في الوقت الحاضر .

6. 5- إن كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم تخل بالتعليم :

يرى ابن خلدون أن من العوامل التي تقف في طريق التعليم اختصار كتب العلم فقال: "ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق في العلوم يولعون بها ويدونون منها مختصراً في كل علم يشتمل على حصر مسائله وأدلتها باختصار الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن, وصار ذلك مخلاً بالبلاغة وعسراً في الفهم" , وقد ضرب أمثلة على ذلك بابن الحاجب في الفقه, وابن مالك في قواعد اللغة العربية, وقد انتقد ابن خلدون ذلك لأن بعض العلوم تحتاج إلى الإطالة والتكرار, لأن فيها مفاهيم ومعان لا يستطيع المتعلم فهمها بدون الإطالة والتكرار, ولأن اختصار العلوم يصيبها بالخلل وتصبح عسيرة على الفهم وخاصة لصغار المتعلمين, لعدم وجود الاستعداد والقدرة لفهم المختصرات. ويقول ابن خلدون أن الاختصار يفسد التعليم ويخل بالتحصيل ويخلط على المبتدئ في التعليم بإلقاء الغايات من العلم وهو لم يستعد لقبولها .
وهذا يوافق الأبحاث التربوية المعاصرة في أن المتعلم يجب أن يستعد للتعلم, وأن لا يرغم على تلقي العلوم دون الاستعداد الكافي, لأن عدم الاستعداد والإرغام يضيع الجهود المبذولة في التعليم

7. 6- طرق التدريس :

لم يطلب ابن خلدون من المعلمين استخدام طريقة واحدة في التدريس, وأجاز لهم استخدام الطريقة التي تناسب قدرات وميول وإمكانيات الطلاب لأن التعليم عنده صناعة والصناع يختلفون في طرق صناعتهم, ولكل صناعة طرق مختلفة ويحق للمعلم أن يستخدم كل الطرق أو بعضها لتحقيق الأهداف المرجوة, وهذا الرأي يتفق مع ما يقوله رجال التربية في الوقت الحاضر من أن أحسن الطرق هي التي تناسب المادة الدراسية ومستوى الطلاب, ومع أن ابن خلدون أباح استخدام الطرق التي تناسب المعلم إلا أنه يشجع على استخدام طريقة المناقشة  فالتعليم عند ابن خلدون يهدف إلى حصول المتعلم على ملكة العلم حيث يصبح على درجة عالية من الفهم وليس فقط حفظه دون فهم وتعمق, لذا انتقد ابن خلدون الطريقة القيروانية التي كانت في زمانه تركز على الحفظ بشكل كبير, ووصف الطلاب بأنهم يلتزمون الصمت والسكون التام دون مشاركة .