نظريات تطور العلم

Site: Plateforme pédagogique de l'Université Sétif2
Cours: إبستيمولوجيا علم السياسة
Livre: نظريات تطور العلم
Imprimé par: Visiteur anonyme
Date: Monday 22 July 2024, 22:31

Description

يتضمن النظريات الثلاث لتطور العلم.

1. القطيعة المعرفية

وضع الإبستمولوجي الفرنسي غاستون باشلارGaston Bachelard(1884-1962) مفهوم القطيعة الإبستمولوجية في إطار تصوره لتاريخ العلوم الذي كان يعارض به النظرة الاستمرارية لذلك التاريخ. وقد قدم باشلار تصورا انقطاعيا عن تاريخ العلوم
فكرته الأساسية هي أن العلوم لاتتطور بالكيفية التي تسمح باستنباط النظريات الجديدة من التاريخ السابق لها في مجالها، ولافهمها في جميع الأحوال في ضوء النظريات السابقة. فليس في تاريخ العلوم استمرار مظهره الانتقال في التطور من نظريات إلى التي تليها فحسب، بل فيه أيضا مظاهر قفزات كيفية وثورات معرفية لايكون فيها الجديد دائما استمرارا لما سبقه، وهذه هي المظاهر التي اقترح باشلار من أجل فهمها مفهوم القطيعة الإبستمولوجية.
حدد باشلار مستويين تظهر فيهما القطيعة الإبستمولوجية: بين المعرفة العامة والمعرفة العلمية، من جهة، قم مع ظهور أنساق علمية فيها مظاهر جدة تراجع مبادئ مفاهيم العلم السابق من جهة أخرى.
1- ناقش باشلار دلائل دعاة الاستمرارية بين المعرفة العلمية والمعرفة العامة. فهم يرون أن المعرفة العلمية منبثقة عن المعرفة العامة التي يبحثون فيهاعن أصول للأفكار العلمية. لاتمنع درجة التجريد والعمومية في المعرفة العلمية، في نظرهم، من إمكانية العودة بها إلى جذورها في المعرفة العامة. لكن باشلار يذهب في اتجاه مضاد لهذا الرأي مؤكدا أن التطورات التي عرفتها المعرفة العلمية، في القرنين التاسع عشر والعشرين بصفة خاصة، جعلتها تتكون، بقدر ابتعادها عن المعرفة العامة والقطيعة معها. فالمصباح الكهربائي لايمكن فهمه انطلاقا من المصباح العادي، مع أن المشترك بينهما صدور النور عنهما، لأنه اكتشاف علمي جديد لاعلاقة له بالمصباح العادي. والقطيعة بين المعرفة العامة والمعرفة العلمية شاملة لأنها تأسيس للمعرفة العلمية ذاتها، ولأن المعرفة العلمية بماعرفته من تطورات ابتعدت بصورة تامة عن أن تكون استمرارا للمعرفة العامة أو استنباطا منها.
2- المستوى الثاني للقطيعة الإبستمولوجية يتم داخل تطور المعرفة العلمية ذاتها، وذلك بفضل اكتشافات علمية جديدة تكون منطلقا لأنساق علمية جديدة وأساسا لمراجعة الفكر العلمي لبعض المفاهيم التي كان يعتمدها في فهم الظواهر التي يدرسها. وفي نظر باشلار، فإن فهم النظريات العلمية الجديدة في إطار التصور الاستمراري لتاريخ العلوم يحجب عن المحلل عناصر الجدة فيها. عرفت العلوم الرياضية منذ القرن التاسع عشر ظهور أنساق هندسية لاأوقليدية، وعرفت العلوم الفيزيائية ظهور أنساق فيزيائية غير النسق النيوتوني. وهناك داخل هذه التطورات الكبرى اكتشافات علمية دعت العقل إلى مراجعة مفاهيم ومبادئ كانت تؤخذ على أنها من ثوابته مثل مفاهيم المكان والزمان والسرعة وطبيعة المادة والحتمية في قوانين الاشياء، بل ومفهوم العقل ذاته. عبر باشلاربمفهوم القطيعة الإبستمولوجية عن مظاهر الجدة في النظريات العلمية التي بدأت نشأتها منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وهكذا، فإن الأنساق اللاأوقليدية ليست مستنبطة من النسق الأوقليدي لأنها تأسست على مصادرات مختلفة عن مصادرة التوازي الأوقليدية، ولأن لها نتائج مختلفة بحيث لايكون مجموع زوايا المثلث فيها معادلا لمجموع زاويتين قائمتين كما هو الشأن عند أوقليد. أما بالنسبة للفيزياء فإن النظريات الجديدة لايمكن استنباطها مما سبقها لأن لها قيمة استقرائية لكونها قامت على أساس ملاحظة ظواهر جديدة لم يسبق للفكر العلمي السابق ملاحظتها.
من جهة أخرى، فإن ميزة الأنساق العلمية الجديدة، في الرياضيات كما في العلوم الفيزيائية، لاتقوم بإلغاء الأنساق القديمة، بل تكتفي ببيان حدودها. فالنسق الأوقليدي يظل قائما لينضاف إليه نسقا ريمن ولوباتشفسكي اللذين يقومان على أساس تصورين جديدين للمكان، وكذلك فإن الميكانيكا النيوتونية تظل قائمة في حدود أن قوانينها نسبية تتعلق بالأجسام ذات السرعة الأدنى من سرعة الضوء، في حين أن الميكانيكا النسبية تتعلق بالأجسام ذات السرعة والضوئية. وأما من جهة الميكروفيزياء، فإنها تضيف إلى قوانين الميكانيكا النيوتونية قوانين تتعلق بالأجسام الدقيقة غير المرئية في الملاحظة المباشرة. وهكذا، فإن القطيعة الإبستمولوجية تعني الانتقال نحو فكر علمي أشمل وأكثر انفتاحا يعمل بأكثر من نسق واحد، أي مع بقاء الأنساق السابقة محتواة ضمن فكر علمي جديد.
إذا كان باشلار قد بلور مفهوم القطيعة الإبستمولوجية انطلاقا من تفكيره في واقع العلوم الرياضية والفيزيائية، فإن إجرائية هذا المفهوم اغتنت واتسعت بالتطبيقات التي قام بها بعض الباحثين في مجالات أخرى هي تاريخ العلوم الإنسانية وتاريخ الأفكار بصفة عامة."

2. البرنامج البحثي

ذهب العلماء في الصباح لمعاملهم ومكاتبهم في الجامعات على أمل أن يتمكنوا من تحقيق إنجاز علمي عظيم بقوة نسبية آينشتاين أو مسارات فاينمن التكاملية، يبدو لكل واحد منهم أن العلم هو تجربة خاصة به وبما يمكن له أن ينتج، تمر أيام وأسابيع وربما سنوات حتى يتحصل أحدهم على شيء جديد أو فكرة مختلفة، ينبهر بها كما يفرح الطفل بدمية جديدة ويبدأ في صياغة نظريته.

العجيب في الأمر هو أنه لا أحد منهم أو حتى من مجموعة فلاسفة العلم التي تسهر حتى صباح اليوم التالي لتتأمل مجموعات من الأبحاث والكتب العتيقة والحديثة، يعرف سبب حدوث اكتشافات كتلك أو نمط تطورها، أو الآليات الدائرة لتبريرها بحيث تصبح جزء من قاعدة بيانات العلم المهولة المبنية على مدى مئات الأعوام، هذا المقال يتحدث عن أحد تلك المحاولات الهامة، وصاحبة التأثير الأكثر شهرة خلال النصف الثاني من القرن الماضي.
 

مراحل تطور العملية العلمية

قبل توماس كون تصور الفلاسفة1 والمؤرخون أن العلم يتطور بنمط خطي، بالضبط كما يظهر في ذلك الشكل البياني المرفق، خط شبه مستقيم يعبر عن نمو العلم عبر تراكم النظريات العلمية ببطئ شديد مع الزمن، يشبه الأمر أن تقوم بكتابة دفتر كامل يدعى "العلم" بمعدل يقترب من "صفحة" كل يوم.

3. العلم يتطور بشكل خطي

لفيلسوف العلم المعاصر نظرية لتأسيس القضايا العلمية كرد فعل على تيار الوضعية المنطقية برفض التعويل على الدليل الإستقرائي في بناء هذه القضايا. إذ وضع بوبر منهجاً عدّه ليس من الدليل الإستقرائي بشيء، وأطلق عليه المذهب الإستنباطي، وذلك ليتخلص من الشبهة الهيومية في الدور والارتداد اللانهائي كما تقتضيه العملية الإستقرائية بوصفها عادة نفسية تقوم على التشابه المستند بدوره إلى الإستقراء، وهكذا، معتبراً ان ما سلكته الوضعية المنطقية من جعل الارتباط قائماً بين الإستقراء والإحتمال لا يغير من النتيجة شيئاً حيث الوقوع في الارتداد اللانهائي1. الأمر الذي جعله يغير هذا المنحى بمنهج جديد لا يمت إلى العملية الإستقرائية.

فهو يبتدئ بوضع فرض معين ذهنياً، وهو فرض مؤقت لا تقتضيه تلك العملية، لكنه يقبل الإختبار، وهو في حالة الإختبار لا يلجأ إلى مبدأ التأييد بالشواهد كما تقتضيها العملية الإستقرائية، إذ أي عدد يمكن إستقراءه فإنه لا يكفي للبرهنة على صحة القضية الكلية. فمثلاً مهما رأينا من الحالات التي يظهر فيها البجع أبيض فإن ذلك لا يخولنا ان نعتبر كل بجع أبيض2، ولقد ظل الاوروبيون قروناً عديدة لا يرون غير البجع الأبيض، مما جعلهم يتصورون ان كل بجع أبيض، حتى اكتشفوا - في يوم ما - البجع الأسود في استراليا، وبالتالي فقد أدى الإستدلال الإستقرائي إلى نتيجة زائفة3.

على هذا فقد لجأ بوبر إلى مبدأ التكذيب والبحث عن الحالة التي تظهر الجانب السلبي من الإفتراض المطروح، فحيث ان الفرض لا يجد ما يدفع إلى تكذيبه فإنه يصمد بقاءً، والعكس بالعكس. فالفارق بين مذهبه ومذهب الوضعية المنطقية، كما يؤكد، هو ان الصورة المنطقية للقضايا الكلية في مذهبه ليست مستمدة من القضايا الشخصية في الواقع الموضوعي، مع هذا فإنه يمكن مناقضة القضايا الأولى بالاخيرة (الشخصية)، أي ان من الممكن البرهنة من صدق القضايا الشخصية على كذب القضايا الكلية، بفعل عملية الإختبار من التكذيب. في حين أن مذهب الوضعية يعتمد على تكوين القضايا الكلية من القضايا الشخصية، وان التحقيق لديه عبارة عن التبرير والأخذ بمسلك التأييد4. وعليه إعتبر بوبر ان النظريات العلمية لا تقبل التبرير أو التحقيق، وإنما تقبل الإختبار، فحيث أنها تصمد أمام الإختبارات الشاقة والتفصيلية فإنه تثبت جدارتها بالتعزيز عن طريق الخبرة5، وهو ما يفسر النمو العلمي وقلب النظريات. فمثلاً ان نظرية ديكارت للجاذبية استبدلت بنظرية نيوتن عند معرفة ان الكواكب تتحرك اهليجياً وليس دائرياً. كما ان نظرية نيوتن استبدلت بنظرية أينشتاين للشذوذ الملاحظ في مدار كوكب عطارد6.

لقد كان أينشتاين ذاته يميل إلى المنهج الإستنباطي عوض الإستقرائي، إذ كان يعمل وفق الطريقة الإفتراضية الإستنباطية في صياغة المبادئ النظرية والتصورات العقلية ليستخرج منها النتائج التجريبية. ويعتبر ان المفاهيم والقوانين الأساسية كما تحددها المبادئ النظرية هي ابتكارات حرة للفكر الإنساني، بإعتبارها غير منتزعة عن التجربة والإستقراء. لكن هذه الابتكارات الحرة ليست مفصولة كلياً عن الإختبار والتجربة، فهي ليست كالرياضيات العقلية المحضة، كما أنها لا تشبه حرية كاتب الروايات الادبية أو تخيلاته، بل هي اقرب إلى حرية من يقوم بحل لغز من ألغاز الكلمات المتقاطعة. صحيح أنه يستطيع اقتراح أي كلمة لحل اللغز، لكن ليس هناك إلا كلمة واحدة فقط تحل اللغز في جميع اجزائه. ومن ثم فالطبيعة تتخذ مثل هذا الطابع للغز7.

ولسنا هنا بصدد نقد ما نصّ عليه أينشتاين، فقد فعلنا ذلك في (منهج العلم والفهم الديني)، فالمعنى الذي ذكره مبالغ في التعبير عن التفسير النظري لعلاقات الطبيعة، فمازالت التفسيرات مفتوحة على مصراعيها، ففي كل مرة يظن العلماء بأن الكلمة الأخيرة قد وجدت لحل اللغز في جميع اجزاء الكلمات المتقاطعة، إلا أنه يظهر بأن هذه الكلمة ليست هي المطلوبة على نحو الدقة، ومن ذلك أنه ثبت بأن النظرية النسبية لأينشتاين لم تكن الكلمة الأخيرة لحل اللغز، ولا توجد نظرية لحد الآن تقوم بهذا الدور العظيم. لكن ما يستفاد من تمثيل أينشتاين السابق هو أنه اراد ان يجعل الحدس العلمي الخلاق مهماً للغاية في التعبير عن الوصول إلى النظريات المناسبة، خلافاً للطريقة الإستقرائية التقليدية، لهذا وصف الحرية في هذا العمل العلمي بالتعبير (ضد الإستقرائية)، وهو ما يعني صياغة المبادئ النظرية غير المستخلصة من التجربة مباشرة وفق ارضية منطقية بحتة. وقد اعتمد في ذلك على لحاظ التعارض بين النظريات دون الإهتمام بالتجارب الفعلية.

لقد اصرّ العلم على ضرورة الاخذ بالتعميمات العلمية لاهميتها، حتى وان وجدت بعض الشواهد التي تكذبها أو تتنافى معها. فقد اظهر العلم انه يغض الطرف عن الشواهد السلبية للتعميمات، ويعتبرها وكأنها غير موجودة أو لا تعنيه ما لم تكن هناك نظرية تعميمية افضل. وبالتالي انه يعمل خلاف ما يتبناه كارل بوبر في نزعته التكذيبية. ففي المجال العلمي قد تحظى النظرية بالقبول رغم ما تحمله من شذوذ. ومن ذلك أن العلماء لم يرفضوا نظرية نيوتن في الجاذبية عندما وجدوا التقادير الأولية التي وضعها بشأن حالات كسوف القمر غير صحيحة. وأنهم لم يرفضوا هذه النظرية رغم فشلها في تفسير حركة عطارد وشذوذه، فقد انقضت (85 سنة) على قبول هذا الشذوذ ثم إعتبرت شاهداً مكذباً أو مستبعداً للنظرية8، وذلك عندما تمّ تفسير هذا الشذوذ تبعاً للنظرية النسبية العامة لأينشتاين.

لذا أصبح من المعروف أنه يمكن للنظرية العلمية أن تبقى مورداً للقبول حتى لو ظهر دليل يكذبها، طالما لديها قوة تفسيرية كافية في نواحٍ أخرى. وكما يرى أينشتاين ان المبرر الوحيد لوجود النظرية العلمية هو أنها مدعومة بعدد كبير من الوقائع والمشاهدات9. بل إن هذا الوضع قد يسمح بالأخذ بمبدأ الحفاظ على النظريات المفنّدة كالذي زعمه فيرابند10، فكل نظرية مفندة – أو لنقل مستبعدة - قد تعود مرة أخرى عندما يُكتشف من جديد أن هناك ما يؤيدها. بمعنى أن الإستبعاد ليس عاملاً حاسماً لإسقاط النظرية كلياً.

ومثل ذلك صرح توماس كون بأن كل نماذج العلم تتضمن حالات شاذة، كنظرية كوبرنيك حول الحجم الظاهري لكوكب الزهرة، ونظرية نيوتن حول مدار عطارد، ومع ذلك فقد كانت هذه النظريات مقبولة خلافاً لتصور النزعات التكذيبية كما لدى كارل بوبر11. وعلى رأي فيرابند لا يوجد شاهد واحد يؤيد نظرية بوبر التكذيبية12. لذلك كان أينشتاين يرى بأن المبرر الوحيد لوجود النظرية العلمية هو أنها مدعومة بعدد كبير من الوقائع والمشاهدات13. وكما يشاطره الفيزيائي والفيلسوف الوضعي فيليب فرانك فإن النظريات العلمية فروض ليست حتمية التصديق ولا يوجد معيار للحقيقة سوى التعزيز بالمشاهدات14. أو كما اتفق عليه العلماء اليوم بأن الفرضية العلمية لا تحتاج إلى الحسم التجريبي، بل هي بحاجة لأن تكون مثمرة وقابلة للتأييد فحسب15. وهو الحال الذي يجعل كل نظرية تحمل في احشائها سر فنائها كما يرى توماس كون16. أو هو أمر يجعل كل نظرية قابلة للموت المؤجل، فالعلم هو مقبرة للنظريات.. لكن في الوقت ذاته قد يُسمح للنظرية بالحياة من جديد، كالذي أشرنا إليه سلفاً، رغم أننا لم نسمع عن عودة نظرية تمّ تركها بتمامها، إنما قد تعاد صياغتها ضمن التكيف مع التطورات الجديدة. ومن ذلك ان النظرية الجسيمية للضوء كما لدى نيوتن قد تمّ التخلي عنها عندما ثبت بالتجارب الحاسمة بأن الضوء ذو طبيعة موجية، لكنها مع ذلك أُعيد لها الحياة من جديد، ولو بالتكيف مع النظرية الموجية المتينة، كالتي دشّنها أينشتاين (عام 1905).

ومع ان بوبر لا يعد مسلكه يرتد إلى المنهج الإستقرائي، إلا انه ـ كما نعتقد ـ يمارس عملاً إستقرائياً، سواء في البدء أو في المنتهى. ففي البدء انه من العبث ان يضع الباحث فرضاً ذهنياً وهو معزول مطلقاً عن النظر إلى الواقع والقرائن المتعلقة به، بشهادة سيرة كل من الناس وعلماء الطبيعة. فليس هناك فرض يمكن عزله عن السوابق من الملاحظات الخاصة بالقرائن التي تؤيد الفرض، سواء بوعي أو بغير وعي.

أما في المنتهى فمن غير المعقول ان يقال بأن التأييد ليس له تأثير على قوة الفرض، فمن منطق الحساب الإحتمالي ان إعتبار القرينة التأييدية لا بد أن تقوي من قيمة إحتمال الفرض. وبوبر لا ينكر هذا الأمر، لكنه إعتبر ذلك ليس بقوة ما تفعله القرينة التكذيبية، بل حسِب ان القرار المؤيد إنما يؤيد النظرية فقط من الناحية الزمنية، بإعتبار ان أي قرار سلبي لاحق يمكنه ان يؤدي إلى طرح النظرية17، وانه لا يوجد برهان حاسم لأي نظرية علمية ‹‹لأنه من الممكن دائماً ان نقول ان النتائج التجريبية لا يوثق بها››18، وبالتالي فهي قابلة للتكذيب. وقد يقال أليس هذا الحكم حكماً تعميمياً لا يجد تبريراً له من غير ملاحظة ما سبق أن تعرضت له النظريات، فكيف جاز هذا التعميم القائم بدوره على الإستقراء، وما هو مدى صدقه على أرض الواقع؟

مع هذا قد يقال ان حكم بوبر السابق يرتد إلى موقف ميتافيزيقي ليس بذي أثر على ما نحى إليه من تأسيس للمنهج العلمي، وذلك مثل موقفه من مبدأ السببية العامة واطراد قوانين الطبيعة. إذ كان حريصاً كل الحرص ان يبعد هذه القضايا عن مجال العلم ويعتبرها ميتافيزيقية طالما أنها لا تقبل التكذيب. وبالتالي فإن القضية العلمية لديه هي تلك التي تقبل التكذيب فحسب. لكنه مع هذا يجعل تفكيك القضايا عائداً إلى اختياراتنا ومواضعاتنا الذاتية، بالرغم من أنها قضايا معرفية ترتد إلى الواقع الموضوعي. فإذا كان الأمر مجرد ترتيب اجرائي فله أن يفعل ما يشاء، لكنه حين ينطلق من منطلقات فلسفية ويُشْكل على الدليل الإستقرائي ومن ثم يتمسك بالشبهة الهيومية، ولم يقتنع بالحل الوضعي في معالجة الإستقراء؛ كل ذلك يجعلنا ندرك ان عمله التفكيكي ليس قائماً على مجرد الحمل الاجرائي، ويظل الاشكال وارداً: بأي حق نعتبر مثل تلك القضايا التعميمية قضايا ميتافيزيقية؟ وكيف يمكن التثبت من كونها لا تخطأ ولا تقبل التكذيب؟ واذا كان من الواضح أنها لم تتأسس إلا بفعل الدليل الإستقرائي، فكيف يلجأ إليه بوبر وهو قد رفضه جملة؟!

أما بصدد مناقشة بوبر على صعيد المنهج العلمي فيلاحظ ان عملية التكذيب وإن كانت تعبر عن قضية مضادة للتأييد، إلا أنها أيضاً ـ مثلها مثل التأييد ـ تستند في تضادها مع الفرض انطلاقاً من العملية الإحتمالية وتقوم بدورها على مسند إستقرائي يثبت كونها تكذيبية بالفعل. وابرز مثال على ذلك ما يتعلق باكتشاف كوكب نبتون طبقاً لنظرية الجاذبية. ففي البداية عُد الانحراف في مدار كوكب (يورانوس) شاهداً سلبياً بالنسبة إلى الجاذبية، لكن ذلك لم يطرح النظرية كلياً، وإنما أضعف من مصداقيتها، طالما كان من الممكن توجيه الشاهد بشكل لا يخرج فيه عن فحوى النظرية، وهو ما حصل فعلاً من قبل بعض أتباعها، حيث وجهوا الشاهد بالشكل الذي لا يكون فيه مناقضاً لمبدأ الجاذبية، فافترضوا وجود كوكب آخر مجهول هو الذي يسبب حالة الانحراف في ذلك المدار. وبالفعل ان أحد علماء الفلك استطاع ان يكتشف هذا الكوكب ويحدد مكانه، وهو ما أطلق عليه كوكب نبتون، الأمر الذي قوّى من مصداقية النظرية أكثر.