الحركة الفكرية في الدولة الرستمية

2. موقع الدولة الرستمية في الحراك الفكري والثقافي والعوامل التي ساعدت على ذلك الحراك:

2.3. الحركة العمرانية والاقتصادية التي شهدتها تاهرت:

 إن شهرة تاهرت باعتبارها مركزا تجاريا نشطا طوال القرن التاسع للميلاد لا تقل عن شهرة المدن المغربية الأخرى، فقد أصبحت نقطة ذات شأن في دائرة التبادل التجاري بين بلاد السودان والمغرب والمشرق وسواحل البحر الأبيض المتوسط. ما إن ستكمل الإباضيون وضع الأساس لبناء المدينة العاصمة سنة 160ه حتى أخذت المدينة في التوسع العمراني وملاح التطور والازدهار الحضاري تنمو وتكبر؛ فبعدما فرغوا من بناء المسجد الجامع، أخذوا في إنشاء المدينة وعمارتها، فجعلوها ديارا وقصورا. وأخذ جمهور التيهرتيين في البناء، وتحولت مع الوقت مدينة عاصمة حاضرة مستقطبة، ولعل أبرز عامل ساعد على هذا التحول هو مقومات الاستقطاب التي تنطوي عليها. وهو ما يؤكده ابن الصغير المالكي حين يقول: " واتسعوا في البلد وتفسحوا وأتتهم الوفود والرفاق من كل الأمصار وأقاصي الأقطار"، وقد ساهم في هذا التدفق سياسة الإمام الأول عبد الرحمان بن رستم، التي كان لها دور كبير في هذا التعمير من خلال أن دولته كانت دولة إباضية، تستظل بها جميع القبائل المعتنقة لهذا المذهب من المغربين الأدنى و الأوسط، إضافة إلى غيرها من المذاهب الداخلة ضمن حدودها، فلإحسانه وعدم تطرفه انتقل إلى تيهرت "أهل الأموال والتجار من  مصر وإفريقيا والمغرب لخوفهم على أموالهم من أئمة الجور، ومن هناك دخلتها الفرق"  كما يعبر عن ذلك الشماخي.

 وهذا ما يبرر أيضا انتقال وفد البصرة إليه و إتيانه بالأموال أو المساعدة الأولى لدولته، ، فهذه المساعدة لم ترد إليه إلا بعدما طار صيت عدله و إنصافه مشارق الأرض ومغاربها وأصبحت بذلك العاصمة الرستمية كما يقول شارل أندري جوليان: "محط رحال رجال الخوارج الذين كانوا يأتون إليها من العراق حاملين معهم الأموال متحمسين إلى التشبع بروح المذهب الخارجي المنتصر وكثير هم الذين يحجمون عن الرجوع إلى المشرق فكانت بذلك سياسته الرشيدة و المتسامحة الأساس الأول لشهرة المدينة و نزوح الناس إليها.

  ومن هنا تحولت تيهرت إلى مقصد لكل خائف وغير آمن على أمواله وتجارته، ومكان لكل رافض وخاضع لسلطة لا تستجيب لطموحاته، فكانت تيهرت مستقرا لهؤلاء فسكنها مسلمون ومسيحيون ويهود، وسكنها من أصحاب المذاهب: سنيون و شيعة  صفرية ومعتزلة وجموع الإباضين، وبالفعل فقد كانت تيهرت بهذه الصورة وبهذا الشكل عاصمة ليس فقط للإباضين والخوارج، بل كانت عاصمة ومنطقة جذب لكل الخارجين عن الدولة العباسية، لما عُرف عن ابن رستم من عدل وحسن السيرة بين رعيته، فأصبح عمران تيهرت وعدل أئمتها حديث الرفاق تنقله الأفاق فأمها الناس من كل ناحية، وقول ابن الصغير يعطي لنا وصفا أدق حيث قال: " ليس أحد ينزل بهم من الغرباء إلا استوطن معهم و ابتنى بين أظهرهم، لما عرف من رخاء البلد وحسن سيرة إمامه وعدله في رعيته وأمانه على نفسه وماله، حتى لا ترى دارا إلا قيل هذا لفلان كوفي وهذا لفلان بصري، وهذا لفلان القروي، وهذا مسجد القرويين و رحبتهم وهذا مسجد البصريين  وهذا مسجد الكوفيين.

    وهذا يبين بصورة واضحة مدى الاستقطاب الكبير الذي شهدته المدينة، حيث أصبحت في مدة قصيرة تحوي أجناسا مختلفة من بربر، خاصة من قبيلة هوارة  ولواتة ومطماطة و زواغة، وكذلك أفرادا من المجموعتين المتنافستين صنهاجة وزناتة ومعظمهم من الخوارج، كانوا يمثلون في تاهرت سكان المدينة، إضافة إلى المهاجرين المشرقيين الذين كانت لهم مكانة هامة سواء من ناحية عدد الأفراد أو الدور الاقتصادي لكثير منهم، ضف إلى ذلك العنصر العربي ومعظمهم جاءوا من إفريقيا، وكانوا من الجند الذين انفصلوا من الأمراء الأغالبة، ناهيك عن الجنس الفارسي  الذي وجد هو الأخر مستقرا له في هذه المدينة