الحقل المفاهيمي للمادة

3. المغرب الأوسط:

3.1. جغرافية القبيلة القاطنة بمجاله:

يحتل المجال الذي تفترشه القبائل القاطنة في بلاد المغرب الأوسط مكانة محورية في تحديد الاطار العام لحدوده، إذ يسهم حراكها وتنقلها ونشاطها في الاقليم دوره في تقلص المجال أو اتساعه، وذلك بشكل مركز من خلال طبيعة علاقتها بالسلطة الحاكمة للاقليم، فإذا كانت تابعة للسلطة ومنخرطة في جسم السياسة العامة للدولة الحاكمة وتمتثل لسياستها وتلتزم بنظامها، تترسّم حدودها بمجالاتها التي تفترشها، لكن إن نازعت السلطة ملكها، وأعلنت انفصالها عن جسمها واستأثرت بحكم مجالها دونها، تكون قد قلّصت من حدود المجال السياسي للدولة الحاكمة وانكماشه بعزل مجالها الجغرافي عن نفوذ الدولة. ولا يخفى علينا بأنّ القبيلة الزناتية (التي من بطونها: جراوة ومغراوة وبني يفرن)  تمثل أبرز القبائل تفترش مساحة عريضة من مجال المغرب الأوسط وتسيطر على فضاء واسع من جغرافيته خصوصا بالناحية الغربية من جسم مجاله وبالجنوب كالأوراس وبلاد الزاب ووارجلان إلى غاية تلمسان. أما بالقسم الشرقي منه فتنتشر قبائل: صنهاجة وكتامة وزواوة وعجيسة وجراوة ونحوها.

        في هذا الصدد تفيدنا الأبحاث التي جادت بها علينا أقلام الباحثين والمهتمين بالشأن السياسي والجغرافي للمجال المغرب أوسطي، بأن اطلاق مصطلح المغرب الأوسط كمجال مستقل عن المغربين الأدنى والأقصى هو وليد القرن الخامس الهجري (11م) من طرف نص الجغرافي الأندلسي أبو عبيد البكري المتوفى سنة 487ه /1094م.

                ومن الأهمية بمكان التركيز في هذا المضمار على رصد الحراك الذي اصطبغت به طبائع القبائل القاطنة للمجال المغرب أوسطي وتنقلاتها المستمرة على بساطه، لتحدد ملامح التغير الطارئ على حدود المغرب الأوسط وإطاره الجغرافي، حيث أسهم ذلك الحراك المستديم والتقلبات التي رسمت علاقة القبيلة بالسلطة في رسم صورة متذبذبة لحدود مجال المغرب الأوسط والإفصاح عن إطاره. ولا بأس من الاشارة إلى أنّ من أبرز أسباب ذلك الحراك والتنقل القبلي هو البحث عن الكلأ والمراعي، أو فشلها في تأمينها مجالها أمام الخصوم إذا غاب دور السلطة في الاضطلاع بذلك شأن الانتقال الزناتي والانحصار نحو الجنوب حين عجزت السلطة الحمادية عن مدافعة القبائل الهلالية التي اقتحمت مجال المغرب الأوسط وضيقت على ساكنته، وعجزت أيضا القبائل الزناتية المنتشرة بمجالات الزاب والمسيلة عن المدافعة والاحتفاظ بمجالها وانحصرت قسرا نحو الجنوب. حيث ساهم انتشار القبائل الهلالية بمجالات المغرب الأوسط في تغيير -إلى حدّ ما- خارطة التوزيع القبلي بهذا الإقليم؛ إذ بالإضافة إلى تأثير ذلك الانتشار على حدود مجال السلطة الحاكمة تقلّصا أو تمدّدا، أثّرت بشكل ملحوظ في نمط التوزيع القبلي على جغرافية هذا الإقليم، حين عمرت بطونها بعض مناطق المغرب الأوسط بعدما أفرغتها من النسيج السكاني القبلي الذي كان يستوطنها؛ إي استبدال العنصر القبلي المستقر في تلك المناطق.

كما كانت تتحرك حين تتلقى ضربات موجعة من طرف السلطة السياسة التي تفرض سلطانها على الاقليم في حال جابتها هذه القبائل أو أعلنت انفصالها عنها وأبدت معارضتها لسياسية ورامت الانفصال والاستئثار بحكم المجال والانفراد بإدارة شؤونه دونها. ومن أوجه ذلك الحراك القبلي لوجه هذا السبب: القبائل التي نزحت عن مواطنها ومضاربها إبان حركة الفتح الاسلامي، والقبائل التي تحركت بسبب السلطة الفاطمية سواء سنة 297ه/909م بعد سقوط مدينة تاهرت الرستمية في يد دولة الفواطم الشيعية بقيادة أبي عبد الله الشيعي(ت298ه/910م) ممهد الأمور لعبيد الله المهدي، والتي فرتّ أمام جيوشه قاصدة وارجلان ثم مدينة سدراتة على بعد حوالي 14 كلم جنوب وارجلان، أو خلال الحملات التي شنّتها الجيوش الفاطمية ضد القبائل الزناتية التي أثارت الفتن والقلاقل في تاهرت وما جاورها ورغبت في الاستئثار بالإقليم دون الفاطميين سواء سنة 305ه أو غيرها من المعارك التي خاضتها جيوش الفاطميين ضدّها على امتداد فترة الحكم الفاطمي لمجال المغرب الأوسط ومن ورائها أحيانا قادة دولة بني أمية بالأندلس الذين كانت بعض القبائل المغربية الزناتية تمد لهم يد العون وتتحالف معهم ضد الفواطم. وكذا في ظل النشاط الحربي الذي خاضه بنو زيري بعد استئثارهم بحكم المغربين الأوسط والأدنى خلفا للفاطميين بعد انتقالهم إلى مصر سنة 362 للهجرة، حيث تمكنت السلطة الزيرية في عهد بلكين بن زيري (ت373هـ/984م) من إجلاء جموع زناتية من المغرب الأوسط إلى ما وراء نهر ملوية بالمغرب الأقصى سنة 361ه/971م في حملته للضرب على يد الانتزاء.

        كما أنّ من بين أسباب ذلك الحراك هو صراع القبائل فيما بينها، فيكون لذلك التغير في المجال الذي تستوطنه أثره العميق في ضبط الحدود والتعبير عن الاطار العام للإقليم. حيث تطالعنا الرواية الخلدونية في هذا الصدد بأن بطون زناتة تداولت سلطة السيادة على إقليم المغرب الأوسط ضمن المجالات التي انفردت بحكمها تنازع السلطة المركزية في ذلك، وذلك على كاهل سلطان القوة إذ بعدما كانت السلطة على الاقليم المغرب أوسطي بنسبة كبيرة في يد مغراوة وبني يفرن ومديونة ومغيلة وكومية ومطغرة ومطمامة، أصبحت لبني يلومي وبني ومانو، ثم صار الأمر لبني عبد الواد وتوجين من بني مادين في العهد الزياني.