المقامات (بديع الزمان الهمذاني، مقامات الحريري، منامات الوهراني)

8. الوهراني

8.4. الهزل في كتابات الوهراني

لقد اختار الوهراني لنفسه أسلوب السخرية والتهكم في الكتابة، وقد جمع في كتابه "أنيس كل جليس" الكثير من رسائله ومناماته وفصوله الهزلية. كتب على لسان بغلته رسالة إلى الأمير عز الدين موسك: "المملوكة ريحانة بغلة الوهراني تقبل الأرض بين يدي المولى عز الدين حسام أمير المؤمنين، نجاه الله من حر السعير، وعظم بذكره قوافل العير، ورزقه من القرط والتبن والشعير ما وسق مائة ألف بعير، واستجاب فيه صالح أدعية الجم الغفير من الخيل والبغال والحمير…".

وهكذا نرى أن الوهراني كان صاحب دعابة ومزاح، وأنه كان خفيف الروح مقبول الكلام،قال صلاح الدين المنجد: "هو ثاني اثنين سلطهما على أهل دمشق أيام الأيوبيين، ابن عنين في "مقراض الأعراض " شعرا، وهو في "رسائله" و"منامه" نثرا".

أقدم من ترجم للوهراني هو القاضي ابن خلكان، قال عنه إنه:" أحد الفضلاء الظرفاء، قدِم من بلاده إلى الديار المصرية في أيام صلاح الدين ـ رحمه الله تعالى ـ وفنه الذي يمُتُّ به صناعة الإنشاء. فلما دخل البلاد ورأى بها القاضي الفاضل وعماد الدين الأصبهاني الكاتب ، وتلك الحلبة علم من نفسه أنه ليس من طبقتهم، ولا تنفق سلعته مع وجودهم، فعدل عن طريق الجد ، وسلك طريق الهزل…".

يفهم من كلام ابن خلكان أن الوهراني ترك طريق الجد بعد أن لقي الفاضل والعماد عند صلاح الدين بمصر. والواقع أن الوهراني قد سلك طريق الهزل قبل أن يصبح صلاح الدين سلطانا. والدليل على ذلك أن الكثير من مقاماته الهزلية ورسائله كتبها في عهد نور الدين بدمشق، ثم إن العماد والفاضل لم يجتمعا بمصر إلا بعد موت نور الدين، زد على ذلك أن قدوم الوهراني من بلاده إلى الشام لم يكن في زمن صلاح الدين، بل كان في زمن نور الدين كما أسلفنا.

ولعل سلوك الوهراني مسلك الهزل مرده إلى التكسب وطلب المال. يحدثنا هو عن نفسه فيقول :

"لما تعذرت مآربي ، واضطربت مغاربي، ألقيت حبلي على غاربي، وجعلت مذهبات الشعر بضاعتي…فما مررت بأمير إلا حللت ساحته، واستمطرت راحته، و لا بوزير إلا قرعت بابه وطلبت ثوابه، ولا بقاض إلا أخذت سيبه، وأفرغت جيبه…".

وإن كان نور الدين قد سلم من لسان الوهراني اللاذع، فلأنه كان لا يعطي الأدباء والشعراء الأموال.

وأيًّا كان أمر الوهراني فيما ابتغاه من سخريته، فإن كتاباته جديرة بالدراسة الواسعة.