النثر العربي القديم تاريخيا وجغرافيا

بعد أن أشــــرنا سابقا إلى الغموض الذي يكتــنف البدايات الأولى في الشعر الجاهلي لتأخّر تدوينه فإنّ الأمر نفســـه يتكرّر بالنسبة للنثر أيضا،فهو موضوع خلاف شديد،لانّه نشأ أيضا ضمن ثقـــافة شفوية سماعية من جـــهة،ولم يصــــل إلينا إلّا القـــليل بعــــد تدوينه في العصور اللاحقة(القرن2 ﻫ) من جهة ثانـــية، ممّا يفتح باب التساؤل عن وجود نثر فنّي عند العرب في العصر الجاهلي الذي يعدذ نواة ميلاد النثر العربي عامة، لا سيما وأن ّ العرب كانوا يحييون حياة بدائية شديدة الارتباط بالبيئة ،بالعالم المـــــحسوس من حولهمن ممّا أضنى دواعي القول النثري لديهم، ومع ذلك لا يمكن أن ننفي بشكل كلّي وجوده،على اعتبار أنّ الأمـــــــّة العربية كانت أمّة بيان كما وصفها القرآن الكريم،وإذا كانت تنجب شعراء كبارا مثل أصحاب المعلــــّقات فكيف تعجز عن إنجاب فرسان القول النثري؟فلا ريب أنّ العرب اتّخذوا النثر الفني وسيلة من وسائل البيان للتعبير عمّا يختلج في أنفسهم ، غير أنّ الغالب عليه هو الأسلوب المسجّع ، لموافقته ما ورد في القرآن الكريم من ذكر الكهّان وأساليبهم ،لقوله تعالى:" فذكّر فما انت بنعمة ربّك بكاهن ولا مجنون،أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون" (الطور 29/30).وقد أورد أنيس المقدسي في كتابه :" تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي" نموذجا للاستدلال مأخوذ من كتاب الأمالي لأبي علي القالي،فيه حديث عن الكاهنة زبراء مع قومها بني رئام،إذ قالت تحذرهم من الأعداء، :" يا ثمرة الأكباد ، وأنداد الأولاد، وشجا الحسّادِ، هذه زبراء، تخبركم عن أنباء،قبل انحسارِ الظلماءِ، بالمؤيّدِ الشّنعاء، فاسمعوا ما تقول: قالوا وما تقولين يا زبراء؟ قالت واللّوحِ الخافق، واللّيل الغاسق، والصباح الشارق، والنجم الطارق، والمزن الوادق،إنّ شجر الوادي ليأدوا خُتلا،ويحرقُ أنيابا عُصلا،وإنّ صخر الطودِ لينذر ثكلا،ولا تجدون عنه مَعَلا" (أنيس المقدسي: تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي،ص14/15) وإذا صحّت نسبة هذه النماذج لفترة ما قبل الإسلام فهي تدلّ على حسن الصياغة ومتانة السبك و قوّة ألفاظها وتناسبها ،ولعلّ موقف القرآن من هذه الأساليب النثرية المسجوعة بالرفض، هو الذي عجّل باندثارها وعدم حفظها وروايتها لاحقا ممّا قلّل من حظ النثر في منافسة القول الشعري على صعيد الممارسة والتنظير ،وفتح الباب للزيادة والنقصان فيه.