مجال الأنثروبولوجيا

4. منهج البحث الأنثروبولوجي

   تعتمد الدراسات الأنثروبولوجية على عدة مناهج وأساليب خاصة في إجراء البحوث والدراسات الأنثروبولوجية، من أهمها:

1- المنهج التاريخي: يستخدم مصطلح التاريخ الاجتماعي للاشارة إلى دراسة مايطرأ على المجتمع وسبكة العلاقات الاجتماعية الخاصة به، وتطور النظم الاجتماعية والتحول في المفاهيم والقيم الاجتماعية، ويرجع الفضل في ذلك إلى كل من العلامة العربي ابن خلدون، والعالم الايطالي فيكو vico في وضع أصول التاريخ الاجتماعي، وقد أوضح ذلك فيكو في مؤلفه الشهير" العلم الجديد" حيث استطاع أن يحول الاهتمام في التاريخ السياسي للحروب والمعاهدات إلى دراسة العادات والقوانين والأنظمة الاقتصادية والاجتماعية.

أما ابن خلدون فقد عرف التاريخ تعريفا اجتماعيا في مقدمته بقوله "يهدف التاريخ إلى إعطائنا صورة واضحة عن الحياة الاجتماعية للإنسان، يعني حضارة الإنسان، ويهدف كذلك إلى تعريفنا للظواهر الاجتماعية التي ترتبط بهذه الحضارة، وإلى معرفة الحياة البدائية والأخلاق، وروح الأسرة والفبيلة وفوارق الطبقات وجميع التغيرات التي تحدثها الطبيعة الخاصة بتلك الأشياء على أعضاء المجتمع.

ومنهج التاريخ الاجتماعي عند ابن خلدون، أو الدراسة  الاجتماعية للتاريخ يعد منهج ديناميكي بالضرورة يسير مع حركة التاريخ ويستوعب تطور الحياة الاجتماعية، وانتقالها من حالة إلى أخرى.

وفي أو علم الانسان يؤكد أصحاب المدرسة التاريخية على أهمية مفهوم التاريخ الثقافي فيذهب العالم ميتلذ Maitland إلى أن الأنثروبولوجيا عليها أن تختار بين أن تكون تاريخية أو لا تصبح شيئا على الاطلاق

ويعتمد علماء الأنثروبولوجيا والمهتمين بتاريخ الشعوب على ثلاث مصادر ومناهج رئيسية في تحقيق أهدافهم هي:

أ‌- الوثائق المكتوبة: فبرغم الصعوبات التي تواجه الاعتماد على هذه الوثائق وخاصة في المجتمعات التي لا توجد فيها وثائق مدونة، إلا أن محاولات حديثة تبذل لجمع مادة يمكن الاعتماد عليها في تكوين بعض المعلومات المنظمة عن هذه المجتمعات.

ب‌- التراث الشفهي: حيث يغطي التراث الشفهي أنواع متعددة من الظواهر والأنظمة والعلاقات الاجتماعية، ويمكن أن نعثر على التراث الشفاهي من دراسة هذه الظواهر الاجتماعية حيث تكشف عن أهمية الاعتماد على هذا المصدر في البحوث التاريخية الأنثروبولوجية.

ت‌- البحث الحقلي: حيث يمثل البحث الحقلي القائم على الملاحظة بالمشاركة وجمع البيانات من الواقع مصدراً رئيسياً للمعلومات، وجزاء رئيسيا من تدريب الباحث الأنثروبولوجي، وذلك بهدف إبراز الوظائف المختلفة للأنساق الاجتماعية والعلاقات المتبادلة بينها إلى جانب تقديم وصف دقيق ومتكامل للحياة الاجتماعية في مجتمع أو ثقافة معينة، وهذا لن يتم إلا من خلال إجراءات وأساليب البحث الحقلي.

2-  المنهج المقارن: إن أي بحث أنثربولوجي ينطوي على بالضرورة على مقارنات بين بعض المتغيرات، ويكتسب المنهج المقارن دلالة خاصة في البحث الأنثروبولوجي، حيث يقصد به عادة دراسة توزيع الظواهر الاجتماعية في مجتمعات مختلفة ، أو أنماط محددة من المجتمعات، وكذا مقارنة النظم الاجتماعية الرئيسية من حيث استمرارها وتطورها والتغير الذي يطرأ عليها، أو حتى مقارنة مجتمعات بعضها ببعض.

أما عن مجالات البحث المقارنة في الأنثروبولوجيا فهي تتلخص فيمايلي:

-  دراسة أوجه الشبه والاختلاف بين الأنماط الرئيسية للسلوك الاجتماعي، وكذا دراسة السلوك الاجرامي ومعدلات الجرائم في المجتمع وأنماطها في مجتمعات مختلفة.

- دراسة نمو وتطور مختلف أنماط الشخصية، والاتجاهات السيكولوجية والاجتماعية في مجتمعات مختلفة وثقافات متعددة وتمثل هذه الدراسات بحوث الثقافة والشخصية ودراسة الطابع القومي.

- دراسة النماذج المختلفة من التنظيمات وخصوصا التنظيمات البيروقراطية مثل النقابات العمالية والتنظيمات السياسية والصناعية والمهنية في مجتمعات مختلفة.

-  دراسة النظم الاجتماعية ، والتي بالضرورة تنقسم إلى أقسام فرعية، مثل تحليل المعايير النظامية العامة أي دراسة نظم الزواج والأسرة والقرابة، ثم دراسة الأنساق الثقافية قبل المعتقدات الدينية، ودراسة العمليات التي تطرأ على المجتمع مثل التحضر والديمقراطية، ودراسة النظم الفرعية مثل العادات والفولكلور، وهي دراسات ذات صلة وثيقة بالأنساق الثقافية.

-  تحليل ومقارنة مجتمعات بأكملها ، فعادة ما تتم المقارنة بين المجتمعات وفقا للنمط الرئيسي  السائد للنظم الاجتماعية والثقافية الموجودة فيها.

أما الصعوبات المنهجية والنظرية، فإن بناء الأنماط من أجل المقارنة يطرح عدداً من المشكلات المنهجية والنظرية يمكن تلخيصها فيمايلي:

-  مشكلة اختيار وحدة المقارنة التي على أساسها سوف تتحدد المتغيرات الرئيسية في البحث.

-  مشكلة تحديد المؤشرات التي تقارن على أساسها بين المتغيرات، حيث تختلف هذه المؤشرات تبعا لاختلاف وحدة المقارنة.

-  مشكلة امكانية المقارنة بالنسبة لكل وحدة من وحدات المقارنة.

-  مشكلة المعاينة، فالعينات الصغيرة نسبيا لوحدات المقارنة تثير تساؤلا عن مدى امكانية صياغة مقارنات متعمقة تجريبية، والمشكلة المنهجية القائمة بالنسبة للعينات عموما هي مدى تمثيل هذه العينات للمجتمع الأصلي.

3- المنهج البنائي الوظيفي: بعد أن تطورت الأنثروبولوجيا في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، ظهرت إتجاهات جديدة تحاول أن تتجنب الصعوبات والمشكلات التي صاحبت استخدام وتطبيق المنهج المقارن تطبيقا تقليديا، وبذلك ظهر ما يعرف الآن في الدراسات الأنثروبولوجية باسم "الاتجاه الوظيفي" الذي أخذ أصحابه يؤكدون على أنهم يدرسون الظواهر في إطارها وسياقها الكلي.

ففي الوقت الحاضر أن العلماء الوظيفين لازالو يعتبرون المقارنة عظيمة الفائدة بل يصعب الاستغناء عنها في دراساتهم، فالاتجاه الوظيفي يهدف إلى التوصل إلى تعميمات تتعلق بالصلات المتبادلة بين النظم في المجتمعات ذات الطبيعة الخاصة، وإلى تصنيف هذه المجتمعات حتى يمكن إدراك التشابه بينها، والمقارنة بينها في محاولة لاكتشاف بعض مظاهر التماثل بين هذه الوحدات البنائية.

لذلك حاول المنهج البنائي الوظيفي المزاوجة بين المنهج المقارن، والاتجاه الوظيفي في الدراسات والبحوث الأنثروبولوجية، حتى يتمكن من دراسة الظواهر الاجتماعية في سياقها الكلي من ناحية، والتعرف على الأدوار والوظائف التي يؤديها كل نظام من النظم الاجتماعية من ناحية أخرى، لمعرفة طبيعة البناء الاجتماعي للمجتمع ككل.

حيث يوجه " راد كليف براون " اهتمامه إلى دراسة المجتمع لا إلى الثقافة، فيؤكد أن المحتمع يتكون من أجزاء متداخلة وظيفيا، وهو بذلك يسعى إلى تحقيق الأهداف التالية:

- الوصف الدقيق للأداء الوظيفي للأبنية الاجتماعية الموجودة في المجتمعات الانسانية مؤكداً على دورها في الحفاظ على البناء الاجتماعي.

- التصنيف المنهجي للظواهر الاجتماعية.

- صياغة القوانين العامة التي تحكم الظواهر الاجتماعية.

لذلك فإن المنهج البنائي الوظيفي يهتم اهتماما كبيراً ببناء الثقافة، والعلاقة القائمة بين أجزائها، كما يهتم أيضاً بدراسة المجتمع والثقافة والعلاقات المتداخلة والمتشابكة بينهما، والتي تتساند مع بعضها تساندا وظيفياً.