النظريات السكانية

4. النظريات الاقتصادية في علم السكان

4.2. النظريات الاقتصادية الحديثة

 أحدثت الثورة التكنولوجية التي شهدتها أوربا مطلع القرن19 ، نموا هائلا في الفنون الإنتاجية والصناعات الثقيلة والتوزيع في زراعة الأراضي، وهو ما تجلى في ارتفاع مستوى الإنتاجية وزيادة المساحات المزروعة، وارتفع معدل الربح مسببا تزايدا في تراكم المال والناتج المحلي وفرص التوظيف، الأمر الذي أنعكس سريعا على الفكر السكاني السائد آنذاك، حيث لم يعد ينظر إلى تأثير التزايد السكاني على حجم الإنتاج، من قبل رواد الفكر الكلاسيكي الجدد حينها نظرة مطلقة، بمعنى أن الزيادة السكانية يمكن تحت تأثير شروط معينة، أن تؤدي إلى زيادة الإنتاجية، كما يمكن لها أن تؤدي إلى تدهورها في ظل سيادة شروط أخرى حيث طرحت في هذا الإطار عدد من النظريات، اخترنا منهم العينة التالية :

·  نظرية الحد الأمثل: طرح مفهوم الحجم الأمثل للسكان في كتابات علماء الاقتصاد لأول مرة على يد "أدم سميث"، ثم تجدد العهد معه مرة أخرى في سنة 1833 في كتاب "مبادئ الاقتصاد السياسي" لــ: سيد جويك، ومن بعده جاء الدور على كل من ادوين كانان في سنة 1888 في كتابه "أساسيات الاقتصاد السياسي"، والاقتصادي السويدي كنوت فيكسل وذلك في عام 1901 ، في سلسلة محاراته عن الاقتصاد القومي، قبل أن يستقر مفهومه كمصطلح شائع لدى الاقتصاديين الرأسماليين آنذاك، بعد أن أماط اللثام عنه بوضوح تام المفكر الاقتصادي الانجليزي ألكسندر كارسوندر، والذي تناوله في كتابيه "المشكلة السكانية" و"سكان العالم" والذي حاول من خلاله الربط ما بين الزيادة السكانية وموارد الثروة، معتبرا أن الإنسان جاهد دائما للوصول إلى العدد الأمثل، والذي معناه العدد الذي يتيح الحصول على أعلى متوسط للعائد بالنسبة إلى الفرد الواحد، وذلك بمراعاة كل من طبيعة البيئة، درجة المهارة المستخدمة من قبل الأفراد، وكذا طبيعة وعادات الناس الذين يعنيهم الأمر وتقاليدهم، وجميع الحقائق الأخرى ذات الصلة بالمسألة، وعندئذ يتحكم الإنسان بشكل عام في عدد أفراده بقصد الوصول إلى الحد الأمثل ، والذي يتسم بكونه غير ثابت حيث يتباين بين زمان وأخر، وذلك تبعا لتغير الظروف السابق ذكرها، حيث أنه كلما كانت المهارة عند أفراد المجتمع كبيرة، كلما زاد احتمال أن يصبح هذا المجتمع كثير السكان، في حين أن هناك مجتمعات غنية بموارد الثروة (أراضي زراعية، ثروة معدنية أو غيرها من الموارد التي توفر الإنتاج...) لكن عدد سكانها بقي قليل، كما هو الأمر بالنسبة لكل من: السودان، أستراليا، العراق  وأعتقد كارسوندز أن نمو السكان يخضع لسيطرة الإنسان نفسه، نظرا لأنه محكوم بتفاعله مع بيئته الفيزيقية والاجتماعية، وعدده على هذا الأساس يتغير من وقت لأخر تبعا لتغير هذا التفاعل، فكلما ازداد التفاعل اتجه الإنسان إلى زيادة العدد والعكس صحيح أيضا، وهو هنا يخالف مالتوس يزداد بمعدلات لا تتناسب مع موارده، مؤيدا بذلك الرأي القائل بأن الزيادة في أعداد السكان، تحددها إلى حد كبير أفكارهم عن الأعداد المرغوب فيها والمتناسبة مع ظروف الحياة، وأن الإنسان أضطر لابتداع أساليب كالإجهاض، ووأد البنات، وعزل النساء...كي يسيطر ويتحكم بأعداد أ فراده مبتدعا في ذلك مقياسا يحدد به ذلك الحجم وهو متوسط الدخل الفردي، فإذا كان هذا الدخل أخذ في الزيادة دل ذلك على أن هذا المجتمع بحاجة إلى المزيد من السكان، وأنه لم يصل إلى الحد الأمثل بعد.

·   نظرية الفجوة السكانية: يرى روبرت بولدوين صاحب هذه النظرية، أنه إذا كان السكان يزيدون بمعدل أعلى من زيادة متوسط دخل الفرد، فإن الاقتصاد القومي كله سيقع في المصيدة، حيث تسوء الأوضاع الاقتصادية كلها ويتدهور الوضع المعيشي، ولا تسير عملية التنمية بالمعدل المرغوب فيه. وعلى العكس من ذلك، إذا زاد دخل الفرد في المتوسط بمعدل يفوق معدل نمو السكان، فإن الاقتصاد القومي سينتعش وعندئذ تتعزز عملية التنمية ويزداد التكوين الرأسمالي .

·  نظرية عرض العمل غير المحدود: ظهرت هذه النظرية في سنة 1954 في شكل مقالة هامة نشرها آرثر لويس في مجلة "الدراسات الاقتصادية والاجتماعية" لمدرسة مانشستر، معتمدا على بعض الحقائق التي تسود في البلاد المتخلفة مثل ارتفاع معدلات النمو السكاني، بطالة حادة، ازدواجية اقتصادية بفعل وجود قطاع صناعي فتي، يتسم بارتفاع مستوى الإنتاجية عنصر العمل البشري، ارتفاع معدلات الأجور، تكنولوجيا متقدمة وقدرة محدودة على خلق فرص توظيف واستيعاب العمالة بسبب ضآلة حجم الفائض الاقتصادي، والذي يمكن أن يتحول إلى تراكم رأسمالي في مقابل قطاع زراعي تقليدي –قطاع الكفاف- يتسم بوجود بطالة مقنعة، وتكنولوجيا محدودة، وضعف الأجور... إلخ. حيث يرى في هذا الصدد آرثر لويس، أنه من الممكن الاستفادة من هذا الوضع السكاني لدفع عجلة التنمية الاقتصادية حينها، إذا أمكن سحب عدد من العمال الزراعيين الزائدين عن حاجة هذا القطاع، لكي يعملوا في القطاع الصناعي، مشترطا لنجاح ذلك 03 ضوابط أساسية وهي:

أ. الاستثمار في القطاع الصناعي يتوقف على الفائض الذي يتحقق بداخله.

ب . أجور العاملين في القطاع الصناعي، يجب أن تعلو مستوى الإنتاجية الحدية لعنصر العمل بالقطاع الزراعي.

ت . تكلفة تدريب العمال الفائضين في القطاع الزراعي، للالتحاق بالقطاع الصناعي، يجب أن تكون ضئيلة وثابتة عبر الزمن.

وانطلاقا من هذه الشروط يمكن أن تبدأ عملية التنمية، بالسحب من عرض العمل غير المحدود في القطاع الزراعي وتغذية القطاع الصناعي بهؤلاء العمال، مع ضرورة المحافظة على انخفاض أجورهم، حتى يتحقق الرأسماليين فائض اقتصادي في نهاية العملية الإنتاجية يوجه للاستثمار، وحينما يزداد الاستثمار تزيد قدرة الرأسماليين على إلحاق المزيد من المزارعين بالقطاع الصناعي، وتستمر العملية هكذا، فتقل البطالة ويزداد تراكم رأس  المال وتنمو الإنتاجية، ويرتفع الدخل ومعه معدل النمو الاقتصادي .

·        نظرية الطلب على العمل: يعتقد سدني كونتز بأن الطلب على العمال على المدى البعيد يؤثر في نمو السكان وفي محاولته تطبيق هذه النظرية على الدول النامية، لاحظ بأن دخول الصناعة إلى اقتصاديات الدول النامية لأول مرة، يعمل على زيادة الطلب من كافة الفئات، ونتيجة لذلك يميل عدد السكان إلى الزيادة بسبب عاملين، وهما هبوط معدلات الوفيات من جهة، و زيادة معدلات الخصوبة من جهة أخرى.

وأفترض كونتز أن الوفيات ترتبط مباشرة بالخصوبة، فبينما ترتبط الخصوبة ارتباطا عكسيا بالتنمية الاقتصادية أو الدخل، موضحا بان معدلات الولادة العالية بين الأغنياء تبدأ بالانخفاض في مرحلة مبكرة من التنمية، وذلك لأن عمل الأطفال والنساء أصبح قليل الأهمية نسبيا، وطالما استمر الطلب على العمل الأبناء بين العوائل الفقيرة، فإنهم يميلون إلى زيادة عدد الأطفال.