النقد التاريخي
1. نشاة النقد التاريخي
نشأة النقد التاريخي:
النقد التاريخي أو النقد الأعلى فرع من التحليل الأدبي الذي يحقق في أصول النص، وعند استعماله في الدراسات الكتابية فهو يحقق كتب الكتاب المقدس. وفي الدراسات الكلاسيكية يركز النقد العالي الحديث في القرن التاسع عشر على الجمع النقدي والترتيب الزمني لنصوص المصادر.
وسواء كان كتابيا أو كلاسيكيا أو بيزنطيا أو عن العصور الوسطى فإنه يركز على مصادر الوثيقة ليحدد من كتبها وكيف وأين كتبت. وعلى سبيل المثال يتعامل النقد العالي مع المشكلة السينوبتية وعلاقة متى ومرقس ولوقا ببعضهم البعض. وفي بعض الحالات يؤكد النقد العالي الفكرة التقليدية للكنيسة عن مؤلف رسائل بولس، وفي حالات أخرى يتعارض مع التقاليد الكنسية ومع الأناجيل أو حتى كلمات الكتاب المقدس كما في رسالة بطرس الثانية. ومن القضايا المركزية للنقد العالي الفرضية الوثائقية.
يعتقد أن أول من درس الكتاب المقدس في ضوء النقد العالي هو الباحث الهولندي دسيدريوس إراسموس (1466؟ - 1536).يستخدم النقد العالي مع النقد السفلي أو النصي الذي يحاول تحديد ما قاله النص الأصلي قبل تغييره بالخطأ أو العمد. فبعد أن يقوم النقد النصي بالعمل وتقديم فكرة جيدة عن النص الأصلي يأتي عمل باحثي النقد العالي ويقارنون النص مع كتابات مؤلفين آخرين.
تعامل النقد العالي مع نص الكتاب المقدس على أساس أن الكاتبين كانوا بشرا في عصر معين وأصحاب أغراض بشرية مختلفة، وليس كنص إلهي معصوم عن الخطأ. ويستخدم النقد النصي لتفسير النصوص الكتابية على أساس الأدلة داخل النص فقط. ومن الأمثلة تعامل الطبعات المختلفة لدائرة المعارف البريطانية مع مسألة سفينة نوح. ففي الطبعة الأولى في 1771 تعومل مع القصة على أنها صحيحة وقدم الشرح العملي التالي: "برهن بوتيو وكيرشر هندسيا على أساس أن الذراع قدم ونصف بأن السفينة كانت واسعة بما يكفي لكل الحيوانات التي افترض دخولها فيها... وأن عدد أنواع الحيوانات الموجودة أقل مما تخيل ولا يصل إلى مئة حيوان من ذوات الأربع". لكن الموسوعة تقول في طبعتها الثامنة عن قصة نوح: "يمكن تذليل الصعوبات المتعلقة بالاعتقاد أن كل أنواع الحيوانات عاشت في السفينة باعتماد اقتراح المطران ستيلينغفليت والذي وافق عليه ماثيو بول وآخرون بأن الطوفان لم يشمل كل الأرض المسكونة". وفي الطبعة التاسعة في 1875 ليس هناك محاولة للتوفيق بين قصة نوح والحقائق العلمية بل قدمت القصة بدون تعليق. أما في طبعة 1960 فنجد التالي: "قبل أيام "النقد العالي" وانتشار النظرات العلمية الحديثة عن أصل الأنواع كان هناك الكثير من النقاش بين المتعلمين واقترحت عدة نظريات عبقرية وغريبة حول عدد الحيوانات في السفينة".
يُعرّف بأنّه ممارسة قائمة على العلم، يتمُّ من خلال هذه المُزاولة فحص وتدقيق النّص؛ بهدف الوصول إلى الحقيقة التاريخيّة بشكلٍ حياديٍّ بعيدًا عن الذاتيّة، فإذا كان الناقد بحاجة إلى معرفة التأثير والتأثر للعمل الأدبي أو معرفة مراحل تطور فن من فنون الأدب، أو إذا قام بمحاولة جمع خصائص أمة من الأمم في آدابها فلا يسعفه في ذلك إلا انتهاج المنهج التاريخي في النقد، مع العلم أنّه لا يستقل بذاته عن المنهج الفني في النقد؛ فالنقد التاريخي مجاله محيط العمل الأدبي.
حدَثَ إبّان الثورة الفرنسية في نهاية القرن التاسع عشر تطوّرًا واسعًا في النقد، وثورة عمِلت على خفت الأصوات التي تنادي بضرورة الرجوع للقواعد الرومانية واليونانية أثناء التحكيم على العمل الأدبي، فشرع النقّاد وغيرهم من المؤرخين يأخذون بمبدأ يقول إنَّ الأدبَ تعبير عن المجتمع الذي استعارته" مدام دي ستايل" من الألمان، وقد ظهر هذا المبدأ في مؤلفاتهم كالكتاب الذي ألّفه ميشليه بعنوان "في تاريخ فرنسا" حيث تحدّث فيه عن بيئة الشعب الفرنسي ونشأته وتطوره، أمّا في الأدب فقد قام فلمان بإخضاع دراسته للعمل الأدبي للعوامل السياسية والاجتماعية والبيئية والجنس المحيطة بالعمل الأدبي، وهو بذلك منح المذهب التاريخي في النقد أن يظهر بوضوح وينهض، ومن جهة أخرى كانت العلوم الطبيعية تتطوّر ولها قوانينها الثابتة، ممّا جعل الأدباء ينادون بأن يكون للنقد قوانين ثابتة؛ فهو علم كغيره من العلوم فكان ذلك بدايةً لجعل النقد علمًا له قوانينه، وتاليًا سيتمّ الحديث عن أبرز روّاد النقد التاريخي.