محتوى المحاضرة الثالثة
1. تمهيد
إن دراسة موضوع العلاقة بين الشريعة والحكمة، أو بين الفلسفة والدين، قد استنفذ من الفلاسفة وبعض المفكرين العرب جهدا كبيرا؛ حيث إنهم قد اهتموا بدراسة هذه المسألة اهتماما عظيما، وذلك حين وصلتهم الفلسفة اليونانية، وخاصة فلسفة أرسطو، عندما وصلت هذه الفلسفة ونظروا فيها وجدوا في هذه الفلسفة أراء تخالف وتناقض أقوالا في الشريعة الإسلامية، ولمّا كان المسلمون في حرص شديد على التمسك بالدين إلى جانب تعلقهم بالفلسفة اليونانية، لمَّا شاهدوها واطّلعوا عليها عندئذ رأوا أنه من الواجب عليهم أن يخوضوا في موضوع التوفيق بين الفلسفة والدين، وأن يثبتوا أن هناك علاقة وثيقة بين الجوانب الفلسفية وبين الشريعة الإسلامية.
إذًا الدافع لكي يفكر بعض علماء المسلمين في التوفيق بين الدين والفلسفة أنهم وجدوا أن الفلسفة فيها بعض الفوائد بعدما اطّلعوا عليها، ثم نظروا أيضا فوجدوا أنها تخالف شيئا من الأصول والقواعد الدينية، وهم لا شك من أهل الإيمان، فأردوا أن يستفيدوا من الفلسفة فحاولوا التوفيق إذًا بين الفلسفة والدين.
ومن الأسباب أيضا: أن هؤلاء اعتقدوا أن الفلسفة والدين يساند كل واحد منهما الآخر، وبالتالي بدءوا يُوجدون توءمة بينهما، ويحاولون التوفيق بينهما، ويذكرون أنه لا يمكن أن يكون هناك تعارض بين الدين والفلسفة، ولا شك أن هذا وقع منهم لسوء الفهم والخلط بين الدين وبين الفلسفة.
هذه المشكلة في الحقيقة –أعني: التوفيق بين الدين والفلسفة- كانت من المشكلات الفلسفية والدينية التي خاض فيها كل فلاسفة العرب تقريبا، فقد بحثها الكندي والفارابي وابن سينا، بل قد بحث فيها أيضا فلاسفة المغرب الإسلامي، كابن طفيل وابن رشد، وإذا كانت هذه المشكلة تُعدّ هامة بالنسبة لفلاسفة المشرق، إلا أنها كانت أيضا بدورها هامة، بل أكثر أهمية بالنسبة لفلاسفة المغرب الإسلامي، وأعني بهم الفلاسفة الذين كانوا في بلاد الأندلس في الفترة التي اشتغل بها فلاسفة المشرق بالفلسفة، وقد يكون مردّ اهتمام فلاسفة المغرب الإسلامي بالفلسفة هو هجوم الإمام الغزالي -رحمه تبارك وتعالى- على الفلسفة والفلاسفة، حتى اعتقد قوم منهم أنها لن تقوم لها قائمة بعد هذا الهجوم العنيف.
وتاريخ الفلسفة العربية يحدثنا بأن ابن طفيل مثلا، وكذلك ابن رشد من فلاسفة المغرب الإسلامي الذين بحثوا في هذا الموضوع، كانوا يؤيدون الفلسفة تأييدا عظيما، ولا شك أنهم استفادوا وهم في المغرب من محاولة فلاسفة المشرق في ذلك، كالكندي والفارابي وابن سينا.
وإذا رجعنا مثلا إلى كتاب ابن طفيل (حي بن يقظان) وجدناه يشير إلى الغزالي وينقده نقدا سريعا، ولا شك أنه ينقده لنقد الغزالي للفلسفة، ولكنه يسعى أيضا بدوره كفيلسوف عربي إلى الجمع بين الفلسفة والدين، وكان ابن طفيل -رحمه الله- حريصا على الجمع بينهما، وإن لم يكن الهدف الأول والأساس من كتابه (حي بن يقظان) هو الجمع بين الفلسفة والدين.
وأخلص من هذا إلى القول بأن أكثر فلاسفة ومفكري العرب قد خاضوا في دراسة موضوع العلاقة بين الفلسفة والدين، وسأكتفي هنا بذكر نماذج من هؤلاء الذين قاموا بالتوفيق بين الفلسفة والدين، كنموذج لجَهد الفلاسفة في ذلك ، ولعلي إذا بينت الأسباب التي أدت هؤلاء إلى ذلك، وهذه يظهر لنا كيف اهتم فلاسفة العرب بمسألة التوفيق بين الفلسفة والدين واعتبروها من المسائل المهمة.