محتوى المحاضرة الثانية
4. المبحث الثالث:خصائص الفلسفة الإسلامية
4.4. المطلب الرابع:فلسفة وثيقة الصلة بالعلم.
فلسفة وثيقـة الصلة بالعلـم:
وأخيراً الفلسفة الإسلامية وثيقة الصلة بالعلم تغذيه ويغذيها، وتأخذ عنه ويأخذ عنها، ففي الدراسات الفلسفية علم وقضايا علمية كثيرة، وفي البحوث العلمية مبادئ ونظريات فلسفية والواقع أن فلاسفة الإسلام كانوا يعتبرون العلوم العقلية جزءاً من الفلسفة ، وفد عالجوا مسائل في الطبيعة كما عالجوا مسائل في الميتافزقيا. ومن أوضح الأمثلة على ذلك كتاب الشفاء، أكبر موسوعة فلسفية عربية، فإنه يشتمل على أربعة أقسام: ينصب أولها على المنطق والثاني على الطبيعيات، والثالث على الرياضيات، والرابع على الإلهيات. وفي قسم الطبيعيات يدرس ابن سينا علم النفس، والحيوان، والنبات، والجيولوجيا. وفي قسم الرياضيات يدرس الهندسة والحساب والفلك والموسيقى.
وفلاسفة الإسلام علماء، ومن بينهم علماء مبرزون، فالكندي عالم قبل أن يكون فيلسوفاً، عني بالدراسات الرياضية والطبيعية، وكان يرى – كما رأى أفلاطون من قبل – أن الإنسان لا يكون فيلسوفاً قبل أن يدرس الرياضة. واجتهد في تطبيق الرياضيات في الفلك والطبيعة والطب، بل في الميتافزيقا حيث حاول أن يبرهن على وجود الله برهنة رياضية، وعوّل على التجربة، واستخدمها في بعض دراساته الكيميائية وكان في مقدمة الإسلاميين الذين أبطلوا دعوى صنع الذهب والفضة من غير معدنيهما، وعد في عصر النهضة واحداً من اثنى عشر قطباً من أقطاب الفكر في العالم. وللفارابي بحوث في الهندسة وعلم الحيل (الميكانيكي)، وهو دون نزاع أكبر موسيقي الإسلام، عرض الموسيقى في عدة كتب وخاصة في كتاب الموسيقى الكبير، وأدخل على الموسيقى اليونانية إضافات جديدة. وابن سينا حجة في الطب بقدر ما هو حجة في الفلسفة، تعلم الطب في سن مبكرة، وزاوله عملاً ولما يجاوز العشرين، وأحرز فيه شهرة فائقة، وتوسع فيه درساً وبحثاً، وكتابه القانون من أهم المؤلفات الطبية العربية، وقد بقى يتدارس في جامعات أوروبا إلى القرن السادس عشر، وفي بعض المعاهد الإسلامية إلى أوائل هذا القرن، ولم يخرج الأمر في الأندلس عن ذلك كثيراً، فقد كان فلاسفته الثلاثة الكبار: ابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد أطباء وإن تفاوتت رتبهم، وكتاب الكليات في الطل لابن رشد، الذي ترجم إلى اللاتينية في منتصف القرن الثالث عشر مثال جيد لعرض القضايا الكلية والمبادئ العامة.
والواقع أن العلوم الطبيعية والرياضية وثيقة الصلة بالدراسات الفلسفية في الإسلام، ولا يمكن أن يفهم أحدهما بدون الآخر، ويوم أن ضعف البحث الفلسفي ضعفت معه الدراسات العلمية، وإذا كنا قد أشرنا إلى الفلاسفة العلماء، فإنا نستطيع أن نضيف إليهم العلماء الفلاسفة. ويمكن أن نذكر أن من بينهم محمد بن زكريا الرازي (320-932)ن وهو دون نزاع أكبر طبيب في الإسلام، بل في القرون الوسطى على الإطلاق، ويمتاز بالأصالة ودقة الملاحظة، واستطاع أن يكشف عن أمراض لم تكن معروفة من قبل، وكتابه الحاوي في مقدمة كتب الطب العربية، التي عول عليها اللاتين. وقد منح الكيمياء قسطاً كبيراً من عنايته، وهو في طبه وفلسفته واثق من نفسه كل الثقة، ينتقد جالينوس، ولا يتردد في أن يهاجم أرسطو، وأبو الحسن بن الهيثم (1039) من أعظم الرياضيين والطبيعيين في القرون الوسطى، انتهى في البصريات إلى آراء ونظريات أكبرها المدرسيون، وسبق بها علماء عصر النهضة والتاريخ الحديث، وشاء أن يطبق هندسته في مجرى النيل بمصر، وينظم الري، ويحول دون الفيضانات الطاغية، وأولع كذلك بالفلسفة، لأنها في رأيه أساس ينبغي أن تقوم عليه العلوم جميعها، وكان معجباً بأرسطو شأن المشائين العرب، فدرس كتبه وعلق عليها.
ويمكن أن يلاحظ أن الحركات العلمية في الإسلام سبقت الدراسات الفلسفية، ولابد لنا أن نعيش قبل أن نتفلسف، ويوم استقر العرب في بلاد فارس ومصر، لفتت نظرهم حركات علمية في جنديسابور وحران والإسكندرية، فحاولوا أن يفيدوا منها، وشغلوا أولاً بما تقتضيه ظروف الحياة، وإنا لنرى خالد بن يزيد الأموي (704) يعنى في عهد مبكر بالكيمياء والطب والنجوم، ودعا في أثناء ولايته على مصر بعض المتخصصين لترجمة رسائل فيها عن اليونانية، أو القبطية، ويوم اتجه المنصور (775) نحو مدرسة جنديسابور، التي أسسها كسرى أنوشروان، إنما كان يبحث عن أطباء لا عن فلاسفة، وقد اهتدى إلى بني بخيشوع الذين كان لهم شأن في نشأة الدراسات الطبية العربية، وإسهام في حركة الترجمة الكبرى، وهذه الحركة مدينة بوجه خاص لرجال الصدر العباسي الأول، فقد جعلوا من بغداد مركزاً لحركة أكبر حركات الترجمة في التاريخ، والمترجمون أنفسهم رواد في ميدان البحث العلمي، فحنين ابن اسحق (877) شيخ المترجمين في الإسلام طبيب، وطبيب عيون بوجه خاص، وقد تخصص في ترجمة كتب أبقراط (370ق.م) وجالينوس (200)، وجمع منها اكبر عدد ممكن، وثابت بن قرة (901)رياضي مترجم، ويكاد يتخصص في ترجمة كتب إقليدس (285ق.م) وأرشميدس (212ق.م) وبطليموس (161)، ولم يكن غريباً أن يعنى الكندي، اول مشائي العرب، بالرياضية والفلك والكيمياء. كما بينا من قبل فقد عاصر هؤلاء المترجمين وعاش معهم.
وقد أسهمت بعض الجماعات السياسية في الحركات العلمية الناشئة، وللشيعة بوجه عام والإسماعيلية بوجه خاص شأن في تاريخ العلم والفلسفة في الإسلام، ففي أخريات القرن الثامن الميلادي، ظهرت في الكوفة حركة علمية ترمي إلى البحث عن خصائص المعادن والنبات، وقد تزعمها جابر بن حيان الوفي (776) الذي يمت إلى الشيعة بنسب، ويعد ((أبو الكيمياء العربية)) وإليه تعزى مجموعة كبيرة من الرسائل ترجمت كلها إلى اللاتينية، وقد عمرت مدرسته من بعده، وعززت التجربة واستخدمت الأجهزة والآلات، وإخوان الصفا الذين ظهروا في النص الأخير من القرن العاشر جماعة سرية سياسية ولهم صلة بالإسماعيلية، وقد مزجوا العلم بالفلسفة، ورسائلهم نموذج من الثقافة العامة السائدة، وجملتها 51 رسالة، وتنقسم إلى أربعة أقسام: رياضيات، وطبيعيات، وعقليات، وإلهيات. عدا الرسالة الحادية والخمسين التي تسمى ((الجامعة))، وهي توضح هدفهم وتجمل ما ورد في الرسائل الأخرى.
ولا نزاع في أن أرسطو قد غذّى الثقافة الإسلامية بعلمه، بقدر ما غذاها بمنطقه وفلسفته، وكان له ولوع كبير بعلم الأحياء إلى حد أنه أعد في ((اللوقيون)) متحفاً خاصاً لبقايا الحيوانات، ترجمت كتبه الطبيعية إلى العربية، وكانت مدداً للفلاسفة والعلماء على السواء، ولم يقف العرب عندما وضعه بنفسه، بل أضافوا إليه كتباً من صنع آخرين، مثل كتاب النبات (De plantis) الذي هو بيقين من تأليف تلميذه تاوفرسطس، وكتابه العالم (Du mondo) الذي يصعد في الغالب إلى بوزيد ونيوس (50) ، من أواخر رؤساء المدرسة المشائية، وفي تقسيم أرسطو المعروف للعلوم يضع الطبيعيات إلى جانب الرياضيات والإلهيات، فيربط العلم والفلسفة برباط وثيق تأثر به فلاسفة الإسلام وعلماؤه.
وكان لهذا التآخي صداه في الفلسفة المسيحية في القرن الثالث عشر، يدرس العلم مع الفلسفة جنباً إلى جنب، ويغذيان بغذاء أرسطي عربي، ومن مفكري هذا القرن من يعد فيلسوفاً وعالماً على السواء، فألبير الكبير يدعو إلى دراسة العلم والفلسفة معاً، ويفسح لهما المجال في دراساته اللاهوتية، ويدفع البحث العلمي دفعة قوبة، ويعنى مثل كثير فلاسفة الإسلام بالفلك والجغرافيا، والحيوان والنبات، والكيمياء والطب. وصبغ روبير جروسيت (1253) الدراسات اللاهوتية في جامعة أكسفورد بصبغة علمية قوبة، ولعله هو الذي وجهها هذه الوجهة منذ البداية، وله آراء هامة في الفلك والطبيعة، والبصريات والسمعيات، وعلى نهجه سار تلميذاه روجر بيكون الذي كان معجباً بمفكري العرب، وحذا حذوهم في الأخذ بالملاحظة ودراسة الطبيعة ووضع دعائم المنهج التجريبي، وكتابه الهام (Opus MajuS) محاكاة لشفاء ابن سينا الذي كان يعرفه جد المعرفة، ففيه دراسات علمية متنوعة رياضية وطبيعية إلى جانب دراساته الفلسفية واللاهوتية.