محتوى المحاضرة الثانية

4. المبحث الثالث:خصائص الفلسفة الإسلامية

4.1. المطلب الأول:فلسفة دينية وروحية

1- فلسفة دينيــة وروحية:

         تقوم الفلسفة الإسلامية على أساس من الدين، وتعول على الروح تعويلاً كبيراً. هي فلسفة دينية لأنها نشأت في قلب الإسلام، وتربى رجالها على تعاليمها، واشربوا بروحه، وعاشوا في جوّه. وهي إنما جاءت امتداداً لأبحاث  دينية ودراسات كلامية سابقة. ومن الخطأ أن يظن أن الفكر الفلسفي الإسلامي لم يولد إلا في القرن الثالث للهجرة على أيدي الكندي فيلسوف العرب (865)، بل سبقه في مدرسة المعتزلة مكفرون آخرون ذوو مذاهب فلسفية مكتملة، أمثال النظام (845) وأبي الهذيل العلاّف(849) ، والدراسات الكلامية في صميمها باب من أبواب الفلسفة، والكندي نفسه يمكن أن يعدّ بين جامعة المعتزلة، وكثراً ما يحاول فلاسفة الإسلام بوجه عام- شأن المفكرين الإسلاميين الآخرين- أن يدعموا آراءهم بأسانيد من الكتاب والسنّة.

         والفلسفة الإسلامية دينية في موضوعاتها، تبدأ بالواحد ، وتحلل فكرة الإلوهية تحليلاً شاملاً دقيقاً لم تسبق إليه. وكأنما كانت تباري المدارس الكلامية المعاصرة من معتزلة وأشاعرة، فتتدارك نقصها، ومع في تصوير البارئ جل شأنه تصويراً أساسه التجريد والتنزيه، والوحدة المطلقة والكمال التام، وعن الواحد صدر كل شيء، فهو المبدع والخالق، أبدع من لا شيء، وخلف العالم في الأزل، ونظمه وسيرّه، فالعالم معلول له في وجوده وبقائه، أبدعه بمحض فضله، ووعاه بعنايته، وأخضعه لقوانين ثابتة ونظم محكمة. وعلى هذا فالطبيعة والكسمولوجيا مرتبطتان في الفلسفة الإسلامية ارتباطاً وثيقاً بالمتافزيقا. ولا يخرج علم النفس والخلاق عن ذلك كثيراً، فالنفوس البشرية، مهما اختلف فلاسفة الإسلام في حقيقتها وخلودها، يسلمون جميعاً بأن فيها شيئاً نورانياً وإلهياً.

         فهي لا تستطيع الكشف عن الحقائق الكلية إلا بمدد ساوي وفيض علوي، وبعبارة أخرى إلا بمعونة العقل الفعَّال إن شئنا أن نستعمل لغة الفارابي (950) وابن سينا(1037). وكمالها في أن تسمو عن طريق النظر والتأمل إلى مرتبة الاتصال بالعالم العلوي، ويسلم فلاسفة الإسلام جميعاً، بين مشارقه ومغاربه، بهذا الاتصال، حتى ابن رشد ( 1198) الذي يبدو عليه أنه يربط النفس بالجسم برابط أوثقن على نحو ما صنع أرسطو. وللفضائل قيم ذاتية، والحلال بين، والحرام بين، وفي وسع العقل البشري أن يكشف عن ذلك، ولكن الوحي يدعم العقل ويؤيده.

         وما من فلسفة دينية إلا وللروح فيها نصيب ملحوظ، والأديان تخاطب عادة قبل أن تخاطب العقول. ويرى فلاسفة الإسلام أن الروح مصدر الحياة والحركة والإدراك. وسيلة البهجة والسعادة. ففي الكائنات الحية نفوس تغذيها وتحركها ، وتُعد بعضها بالعلم والمعرفة، فهناك نفوس نباتية، وأخرى حيوانية، وثالثة إنسانية، ولكل فلك من الأفلاك السماوية نفس خاصة به. مملوءة شوقاً ورغبةً في الكمال ، فتتحرك وتحرك فلكها، ورئيس المدنية الفاضلة أو الجمهورية المثلى بشر سمت نفسه وتخلصت من شوائب البدن، وأضحى نبيًّا فيلسوفاً يسوس الناس بالحكمة، ويدير شؤونهم بالعدل والقسطاس فعالم السماء وعالم الأرض محكومان عند فلاسفة الإسلام بالنفوس الفاضلة ونزعتهم الروحية أوضح من أن نطيل الحديث فيها.

         بهذا الطابع الديني والروحي استطاعت الفلسفة الإسلامية أن تقترب من الفلسفة المدرسية، بل وأن تتلاقى مع بعض الفلسفات الحديثة والمعاصرة. وما كان لرجال الدين في القرون الوسطى أن ينكروا فلسفة تقول بالخلق والإبداع، وتبرهن على خلود الروح، وتؤمن بالجزاء والمسؤولية والبعث والسعادة الأخروية. ولقد وصل الأمر بروجر بيكون (1294) أنه كان معجباً (( بنظرية الخلافة والإمامة الإسلامية )) ، على نحو ما شرحها ابن سينا في كتاب الشفاء، إلى حد أنه شاء أن يطلق على البابا لقب ((خليفة الله في أرضه)).