الأرضيات الفلسفية الثلاث لابستيمولوجيا علم السياسة
1. الوضعية في العلوم السياسية
في القرن الرابع عشر والخامس عشر كانت المعرفة تبنى على أساس لاهوتي، ميتافيزيقي، حيث كان رجل الدين في أوروبا، يدعي أن الله يخبره بوسائل الوصول إلى المعرفة، مثل أن نقول أسباب نزول المطر بالمرجعية الميتافيزيقيية عند رجل الدين الأوروبي آنذاك يتم تفسيرها على أنها تعبير عن رضا الرب أو سخطه، لكن يبدو أن شغف العلماء بوضع حد لتلك القرون من الظلام العلمي، فكرو في تغيير المرجعية العلمية اللاهوتية الميتافيزيقية (الذاتية) في الوصول إلى المعرفة إلى مرجعية يضعونها كعلماء (ومنه جاءت كلمة وضعية أي وضع البشر العلماء وليس السماء) بشكل موضوعي، أي البحث عن الأسباب الحقيقية الموضوعية الخالية من الذاتية في تفسير الظواهر الطبيعية. هذا المنطلق الفلسفي العلمي جعل العلماء ينخرطون في هذا المنحى الوضعي الجديد، وتأسيس العلوم الوضعية القائمة على قواعد ونظريات يضعها العلماء البشر بشكل موضوعي وليس بالاعتماد على نظريات لاهوتية ظلامية.
لكن يبدو أن علماء السياسة انتظروا إلى غاية القرن العشرين، وفي محاولة منهم لانتزاع الاعتراف بعلمية علم السياسة، حاولوا استنساخ المرجعية الوضعية في العلوم الطبيعية نحو علم السياسة، ونقلو تلك الافتراضات التي تقول:
- الظاهرة محل دراسة تتميز بالثبات ويمكن دراستها بأدوات بحث علمية.
- يمكن توظيف نظريات وأدوات بحث علمي تتميز بقدرة تفسير مثل ما هو في العلوم الطبيعية بل يمكن حتى الوصول إلى نتائج دقيقة.
- مثل العلوم الطبيعية، هناك أسباب تؤدي إلى نتائج، وبالتالي يمكن الاستعانة بالتجريب على الظواهر السياسية.
الوضعية في علم السياسة عرفت تيارين أساسيين، 1/ الوضعية النوعية 2/ الوضعية الكمية التجريبية.
1- الوضعية النوعية qualitative positivisme ، تمثل التيار الأول الذي انخرط في أبحاث علم السياسة، مثل المدرسة القانونية والنظرية المثالية، الواقعية الكلاسيكية، يعتقد هذا التيار أن علم السياسة علم وصفي ملاحظاتي observational، لذلك جاءت كتاباتهم ومؤلفاتهم دراسات قانونية، وصفية، تتعامل مع ماهو كائن وإعطاء قراءة للوضع القائم.
2- الوضعية الكمية التجريبية quantative postivism (experimentalist)، جاء هذا التيار كانتقاد للتيار النوعي، حيث يجادل أن أبحاث علم السياسة في التيار الوصفي جاءت غير دقيقة النتائج وكانت وصفية سردية، غلب عليها طابع قانوني. ويجادلون بأن علم السياسة بحاجة إلى شحنة علمية، تتمثل في تطبيق المناهج التجريبية، حقيقة لم يكن التيار التجريبي متطرف إلى ذلك الحد من التجريب المحض، لكنه حاول تكييف التجريب على الظواهر الاجتماعية. يمثل هذا التيار بشكل بارز المدرسة السلوكية، وإلى حد ما الواقعية الكلاسيكية، فقد إنخرط عدد مهم من علماء الواقعية الكلاسيكية في النهج التجريبي الكمي. لذلك عرفت تلك الفترة تغير في بنية السوق العلمية، من خلال غلبة المؤلفات، الكتب، والأبحاث الكمية، التجريبية.
ما بعد الوضعية في العلوم السياسية post-positivisme in political science
واصل التيار الوضعي هيمنته على حقل علم السياسة إلى غاية نهاية الثمانينات، وقد خلف كم كبير من الكتب، المقالات، المؤلفات، مجلات، أبحاث... التي تتبنى منطق وضعي في التحليل. إن هذا التراكم المعرفي الوضعي أعطى إنطباعا بصلاحية (الأصلح) هذا التيار في علم السياسة.
لكن مع نهاية الثمانينات مجموعة من العلماء بدو أكثر تشكيكا في صلاحية الفلسفة الوضعية العلمية في علم السياسة، وطرحو التساؤل: هل هناك إنفصال بين الفاعل والبنية؟ هل يؤدي الخطاب أدوارا تشكيلية في البنية؟ هل استطاع علم السياسة أن يكتسب هوية علمية؟
إن هذه الأسئلة أحدثت إنفصالا تاما بين الوضعيين وما بعد الوضعيين، لقد أصبحنا أمام نظريات في علم السياسة تتحدث لغة مختلفة تماما، تفتقد لأرضية حوار محايدة لتحكيم النقاش بينهما. إنه نوع من الشرخ الابستيمولوجي والأنطولوجي.