نظرية العلاقات الدولية
4. اللليبرالية
التحدي الأساس للواقعية يأتي من عائلة النظريات الليبرالية، التي ترى إحدى اتجاهاتها أن الاعتماد المتبادل في الجانب الاقتصادي سوف يثني الدول عن استخدام القوة ضد بعضها البعض، لأن الحرب تهدد حالة الرفاه لكلا الطرفين.
اتجاه آخر منسوب للرئيس الأمريكي الأسبق وودرو ويلسون، يرى أن انتشار الديمقراطية يعتبر مفتاحا للسلام العالمي، ويستند هذا الرأي إلى الدعوى القائلة بأن الدول الديمقراطية أكثر ميلا للسلام من الدول التسلطية. وهناك اتجاه ثالث، وهو الأحدث، يرى أن المؤسسات الدولية مثل وكالة الطاقة الذرية وصندوق النقد الدولي، يمكن أن تساعد للتغلب على النزعة الأنانية للدول عن طريق تشجيعها على ترك المصالح الآنية لصالح فوائد أكبر للتعاون الدائم. ورغم أن بعض الليبراليين احتفوا بالفكرة التي تعتبر أن الفاعلين عبر القوميين - خاصة الشركات المتعددة الجنسيات - استحوذوا تدريجيا على سلطات الدول فإن الليبرالية بصفة عامة ترى في الدول فاعلين مركزيين في الشؤون الدولية. وفي كل الحالات فإن جميع النظريات الليبرالية تطغى عليها النزعة التعاونية بشكل يتجاوز بكثير الاتجاه الدفاعي في النيوواقعية، على أن كلا منهما يقدم لنا توليفة مختلفة عن كيفية تعزيز هذا التعاون.
المقاربات الراديكالية
إلى غاية الثمانينيات كانت الماركسية بمثابة البديل الأساسي للاتجاهين المهيمنين على العلاقات الدولية (الواقعية والليبرالية) وقد تجاوزت الماركسية نظرة الواقعيين والليبراليين للنظام الدولي كمعطى مسبق، إلى تقديم تفسير مختلف للنزاعات الدولية، بل وأكثر من ذلك، فقد زودتنا بمسودة تتضمن تحويلا جوهريا للنظام الدولي.
فالنظرية الماركسية الأرثوذكسية ترى أن الرأسمالية هي السبب الأساس للنزاعات الدولية. فالدول الرأسمالية تحارب بعضها كنتيجة لصراعها الدائم من أجل الربح. كما أنها تحارب الدول الاشتراكية لأنها ترى فيها بذور فنائها. وبالمقابل، فإن النظرية النيوماركسية "التبعية" تركز على العلاقات بين القوى الرأسمالية الأكثر تطورا والدول الأقل تطورا، إذ ترى أن الأولى أصبحت أكثر غنى باستغلال مستعمراتها مدعومة في ذلك بتحالف غير مقدس مع الطبقات الحاكمة للدول السائرة في طريق النمو. وهكذا، فإن الحل في نظرها يكمن في الإطاحة بهذه النخب الطفيلية وتأسيس حكومات ثورية تلتزم بتنمية ذاتية.
في الواقع، لقد تم دحض افتراضات كلتا النظرتين (الماركسية والنيوماركسية) حتى قبل نهاية الحرب الباردة. أما بالنسبة للأولى، فإن تاريخ التعاون الاقتصادي والعسكري الوثيق بين القوى الصناعية المتقدمة، أظهر أن الرأسمالية لا تحتم الانقياد نحو التنازع، وبالمقابل، فإن الانشقاقات الكبيرة التي شهدها العالم الشيوعي مع نهاية الحرب الباردة، أظهرت أن الاشتراكية لا تقوم دوما بتعزيز الانسجام. نظرية التبعية بدورها قد عانت من شواهد إمبريقية لا تسير في اتجاه افتراضاتها، مع بروز حقيقة مفادها أن المشاركة الفاعلة في الاقتصاد العالمي كانت بمثابة الطريق الأمثل للازدهار، وذلك بخلاف نهج التنمية الذاتية بالمفهوم الاشتراكي، ومن جهة أخرى، فإن العديد من الدول السائرة في طريق النمو أثبتت أنها قادرة على المفاوضة بنجاح مع الشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات الدولية الرأسمالية.
ومع استسلام الماركسية لاخفاقاتها المتعددة، اتجه منظروها لاستعارة مفاهيم وتصورات من أدبيات ما بعد الحداثة، خاصة من التيار النقدي في الأدب والعلوم الاجتماعية. هذه المقاربة التي تقوم على المنهج التفكيكي أبدت تشكيكها في مساعي الليبراليين والواقعيين لتعميم افتراضاتهم، إذ ركز رواد هذا الاتجاه الجديد على أهمية اللغة والخطاب في تشكيل المحصلات الاجتماعية، إلا أن اقتصارهم على نقد المنظورات السائدة دون تقديم بدائل إيجابية جعلهم مجرد أقلية منشقة طيلة الثمانينيات.
السياسة الوطنية
لم تكن جل الأبحاث في الشؤون الدولية خلال فترة الحرب الباردة تتناسب وتصنيفها ضمن إحدى المنظورات الثلاثة السائدة، وبالذات تلك التي تركز على خصائص الدول، والمنظمات الدولية، والقيادات. مثل هذه الأعمال تناسب التوجه الديمقراطي في النظرية الليبرالية، كما هو الأمر بالنسبة لمجهودات بعض الباحثين مثل قراهام أليسون وجون ستاينبرونر باستعمالهما لنظرية المنظمة والسياسة البيروقراطية لتفسير توجهات السياسة الخارجية، أو تلك الخاصة بجيرفيس إيرفينغ وآخرين ممن حاولوا تطبيق علم النفس الاجتماعي وعلم النفس المعرفي. لكن أغلب هذه الأعمال لا تسعى لتزويدنا بنظرية عامة حول السلوك الدولي، بل تحاول تحديد العوامل الأخرى التي يمكن أن تقود الدول للتصرف بشكل يخالف توقعات الواقعيين والليبراليين. فالجزء الأكبر من هذه الأدبيات يجب اعتباره مكملا للمنظورات الثلاثة - وليس منافسا لها - في تحليل النظام الدولي ككل.
تصدعات جديدة في منظورات قديمة
أصبحت الدراسة الأكاديمية للشؤون الدولية أكثر تنوعا منذ نهاية الحرب الباردة بحيث برزت الأصوات غير الأمريكية، كما حصل عدد كبير من المناهج والنظريات على الشرعية. بل وأكثر من ذلك، فقد أدرجت مواضيع جديدة في أجندة الباحثين على الصعيد العالمي، ومن بينها النزاعات الإثنية، والبيئة ومستقبل الدولة.
ومع ذلك، فإن الاتجاه نحو التجديد لم يكن في حقيقة الأمر سوى نسخة مكررة للقديم. وبدلا من حل الصراع القائم بين مختلف المقاربات النظرية المتنافسة، فإن نهاية الحرب الباردة لم يعقبها سوى إطلاق سلسلة جديدة من النقاشات، ثم إن اعتناق أغلب التجمعات لنفس القيم المتعلقة بالديمقراطية، السوق الحرة وحقوق الإنسان لم يؤد إلى نوع من الوفاق، بل أن الباحثين الذين عكفوا على دراسة هذه التطورات هم الآن أكثر انقساما من ذي قبل.
انحسار الواقعية
رغم أن نهاية الحرب الباردة قادت بعض الكتاب للتصريح بالإفلاس الأكاديمي للواقعية، إلا أن المتداول بشأن إخفاقها الكلي مبالغ فيه.
يعتبر مفهوم المكاسب النسبية والمكاسب المطلقة إحدى الإسهامات الحديثة للواقعية. فردا على افتراض "الاتجاه المؤسساتي" الذي يعتبر أن المؤسسات الدولية ستًمكن الدول من ترك المزايا قصيرة المدى لصالح مكاسب أكثر للتعاون على المدى الطويل. بحيث يشير الواقعيون من أمثال جوزيف قريكو وستيفن كراسنر إلى أن الفوضى تدفع بالدول للقلق بشأن هذه المكاسب المطلقة من خلال التعاون، زيادة على الطريقة التي يتم وفقها توزيع هذه المكاسب بين المتعاونين، وتبرير ذلك هو أن الدول التي تستحوذ على مكاسب تفوق مكاسب شركائها ستصبح بالتدريج أقوى، بينما يصبح شركاءها أكثر هشاشة.
وفضلا عن ذلك، فقد كان الواقعيون سباقين أيضا إلى استكشاف مجموعة من القضايا المستجدة. فـ باري بوزان يقدم لنا تفسيرا واقعيا للنزاعات الإثنية، بالإشارة إلى أن تمزق الدول المتعددة الإثنيات يمكن أن يضع المجموعات الإثنية أمام وضع فوضوي. هذا الواقع الجديد، يثير مخاوف كل طرف تجاه الطرف الآخر، ويقود كليهما إلى محاولة استعمال القوة لتحسين وضعه النسبي، هذه الوضعية تتعقد أكثر عندما تكون في الإقليم، المأهول من طرف مجموعة معينة، جيوب تسكنها إثنيات أخرى، مثلما حدث فيما كان يعرف بيوغسلافيا. ذلك أن كل طرف يحاول تنفيذ تصفية إثنية (استباقية) لإنهاء وجود أية أقليات غريبة، ما يسمح بالتوسع لضم كل الأفراد المنتمين لمجموعتهم والمتواجدين خارج الحدود الحالية لإقليمهم. وبخصوص مسعى توسيع حلف شمال الأطلسي، فقد حذر الواقعيون من أن ذلك سوف يؤدي الى شل العلاقات مع روسيا في ظل غياب عدو واضح يبرر مسعى التوسيع.
وأخيرا، هناك بعض الباحثين من أمثال مايكل ماستاندونو الذين أشاروا إلى أن سياسة الو.م.أ. تتوافق مع المبادئ الواقعية، خاصة وأن مختلف تحركاتها مصممة أساسا للإبقاء على واقع الهيمنة الأمريكية، ولإقرار نظام ما بعد الحرب بشكل يعزز المصالح الأمريكية.
إن التطور الأكثر أهمية من الناحية التصورية يتمثل في الشرخ المتنامي بين الاتجاهين الدفاعي والهجومي. رواد الاتجاه الدفاعي (كينيث وولتز، فان إيفيرا، جاك سنايدر) يفترضون أنه ليس للدول مصالح كبيرة في الغزو العسكري، ويرون أن التكاليف المترتبة عن السياسات ذات النزعة العسكرية تفوق عادة الفوائد المرجوة منها. وتبعا لذلك فإنهم يرون أن الحروب التي تخوضها الدول الكبرى تحدث عموما نتيجة لشعور مبالغ فيه بالخطر والذي تغذيه مجموعات داخلية، كما تعود أيضا إلى الثقة المفرطة في فعالية العمل العسكري.
لقد تعرضت وجهة النظر هذه لموجة من الانتقادات مست مختلف الجوانب:
راندال سفيلر يشير إلى أن الافتراض النيوواقعي القاضي بأن الدول تسعى فقط للحفاظ على وجودها، ينطوي على تكريس الوضع القائم، ذلك أنها تحول دون التنبؤ بالخطر الذي تمثله الدول العدوانية مثل ألمانيا في عهد هتلر أو فرنسا في عهد نابليون بونابرت والتي لم تكن تعير اهتماما لموجوداتها بقدر اهتمامها بتلبية مطامعها، وهي مستعدة للمخاطرة بفنائها من أجل تحقيق أهدافها.
أما بيتر ليبرمان في كتابه: "ماذا يجني الغزاة؟" فيورد العديد من الشواهد التاريخية كالاحتلال النازي لأوربا الغربية والهيمنة السوفيتية على أوربا الشرقية, ليبين لنا أن فوائد الغزو تفوق تكاليفه، وهو بذلك يزيل الشك عن الادعاء القائل بأن التوسع العسكري لم يعد مربحا.
في حين أن الواقعيين الهجوميين (إيريك لابس، وجون ميرشايمر، وفريد زكريا) يرون أن الفوضى تدفع الدول للعمل على تعظيم قوتها النسبية طالما أن ظهورا مفاجئا لقوة تعيد النظر في الواقع القائم يبقى احتمالا واردا.
هذه الخلافات تساعدنا على تفسير السبب الذي يجعل الواقعيين يختلفون حول مجموعة من القضايا مثل مستقبل أوربا، فالواقعيون الدفاعيون مثل فان إيفيرا، يرون أن الحرب نادرا ما تكون ذات فائدة، وهي في العادة نتاج النزعة العسكرية والقومية المفرطة، إضافة إلى عوامل أخرى، ولأن فان إيفيرا لا يعتقد بتوفر هذه العوامل في أوربا ما بعد الحرب الباردة، فانه يخلص إلى أن المنطقة سيسودها السلام. وبالمقابل نجد ميرشايمر وغيره من الواقعيين الهجوميين يعتقدون أن الفوضى تدفع القوى الكبرى إلى التنافس بغض النظر عن خصائصها الداخلية، فهم يرون أن مناخ التنافس حول الأمن سوف يسود أوربا بمجرد انسحاب راعي السلام الأمريكي.