المحاضرة الأولى
8. ما بعد السلوكية
ــــــ ما بعد السلوكية
منذ ثلاثة عقود من الزمن تقريبا بدأ التوجه ما بعد السلوكي يقدم نفسه بديلا لكل من التقليدية والسلوكية في علم السياسة. لكن ما الذي أدى إلى بروز هذا التوجه؟ يجيب ديفيد آيستن - الذي أعلن عام 1969م مرة أخرى عن انطلاق ثورة جديدة في علم السياسة أسماها "الثورة ما بعد السلوكية" - بأن التوجه ما بعد السلوكي قد جاء كرد فعل من قبل مجموعة من علماء السياسة ضد التجريبية المفرطة وانعدام المسئولية التي اتسم بها التوجه الأمبريقي للسلوكية مما جعل علم السياسة يوفر بيانات مدققة علميا (ملاحظة تجريبيا) لكنها عديمة الفائدة. وحدد ايستن أبرز سمات هذه الثورة الجديدة في الآتي:
1- إعطاء الأولوية للاهتمام بدراسة مشاكل المجتمع القائمة بدلا من التركيز على أدوات البحث العلمي.
2- اتهام النموذج السلوكي بالنزعة المحافظة والنظرة التجريدية المنفصلة عن الواقع.
3- التأكيد على استحالة تطبيق الحيادية في العلم ومن ثم فلا يمكن فصل الحقائق عن القيم.
4- تشجيع المفكرين على تحمل مسئوليتهم الاجتماعية والدفاع عن القيم الإنسانية بدلا من حالة العزلة التي فرضتها عليهم الاتجاهات السابقة.
5- التأكيد على توظيف العلم والمعرفة في تحسين أوضاع المجتمع.
6- تشجيع المفكرين على إعادة صياغة المجتمع من خلال تحويل المعرفة التي يمتلكونها إلى برنامج عمل.
7- تشجيع المفكرين على المشاركة في تسييس المهنة وتسيس المؤسسات العلمية.
ففي الوقت الذي كان فيه التوجه السلوكي قد بدأ يفقد بريقه وتوهجه خلال السبعينات من القرن الماضي نتيجة للإخفاقات التي مر بها ولكثرة وقسوة الانتقادات التي وجهت إليه كان لا يزال هناك أقلية صغيرة من علماء السياسة السلوكيين السابقين، الذين تأثروا بالنجاحات التي حققها علماء الاقتصاد مصممة على جعل دراسة السياسة تقترب كثيرا من العلوم البحتة. وعرفت هذه الأقلية ذات الخلفية الاقتصادية التي خرجت من عباءة التوجه السلوكي السابق بتوجه الاختيار العقلاني في دراسة السياسة. ويؤكد أنصار هذه النظرية الجديدة الذين كانوا أقل اهتماماً بالثقافة أو التنمية بأنه يمكن توقع السلوك السياسي بشكل عام من خلال التعرف على مصالح وتفضيلات أطراف العلاقة المعنية ، الذين سوف يختارون بعقلانية تعظيم مصالحهم .
و تستند نظرية "الاختيار العقلاني" (أو الاختيار العام) على ركيزتين أساسيتين:
الأولى: محاولة تمثيل العمليات السياسية بالاعتماد بشكل أساسي على المعادلات الرياضية، فضلا عن المنهجية الفردية التي تزعم أن كل الظواهر الاجتماعية مشتقه من خصائص وسلوك الأفراد.
أما الركيزة الثانية: فتتمثل في الافتراض بأن الفاعلين السياسيين (الناخبون، والمشرعون، والأحزاب السياسية) يتصرفون بعقلانية منطلقة من المصلحة الذاتية.
ومع أن هذا التوجه لا يفترض أن كل الفاعلين السياسيين يتصرفون بعقلانية كاملة في كل وقت إلا أنه يفترض أن سلوكهم هادف ومحسوب. وأنه يمكن صياغة تفضيلاتهم تجاه نتائج معينة وحساباتهم للتكلفة والعائد المتوقع فضلا عن النجاح المحتمل للاستراتيجيات المختلفة لإنجاز تلك النتائج على شكل مؤشرات كمية أو معادلات رياضية.