فلسفة البيولوجيا
2. تطور علم الأحياء وظهور الثورة البيولوجية
لا مراء في أن التقدم التكنولوجي والتطور العلمي المذهل في جميع الميادين قد صاحبه تطور في علم الأحياء هذا الأخير الذي يهتم بدراسة الكائن الحي بتصنيفاته الثلاث،ولا مراء كذلك في أن هذا العلم قد حقق إنجازات عظيمة على مستوى النبات والحيوان،وكذلك الإنسان،هذا الأخير الذي حققت بفضله بيولوجيا الإنسان تقدما محرزا خاصة في مجال الهندسة الوراثية والجينات وغيرها،ومافتئ هذا التقدم يدنو كثيرا إلى أن يصل إلى العصر الذي يصبح فيه بالإمكان التأثير على سلالة الإنسان بالطريقة التي يريدها أو ما يُعرف بالتخليق الجينيectogenical،وهو ما طرق ناقوس الخطر تهديدا للطبيعة البشرية.
لكن ماهو مميز في كل هذا كما يقول صاحب كتاب البيولوجيا ومصير الإنسان"أن الثورة البيولوجية التي هي محور القرن الواحد والعشرين تهدف في عداد أهدافها إلى كشف بواطن الإنسان وإلى وصف الصراع الأبدي للإنسان عندما يحاول التعبير عن ذاته"[1]،فمع الكشف المطرد الإزدياد عن التركيب الدقيق للتعقيد المنظم الذي يميز الإنسان والذي لا يمكن إنكار فائدته المتزايدة علميا وفلسفيا ،لكن بالمقابل لا محالة خلفت هذه الثورة جملة من السلبيات التي تضرب القيم الإنسانية والفلسفية عرض الحائط.
بدأ العصر الحديث بالنسبة لعلم الأحياء عام 1859م عندما ألف تشارلز داروين كتابه أصل الأنواع origine des éspéces،وقدّم فيه نظرية التطور والإرتقاء التي أعطت أول مبدأ موحد لمعنى الحياة ،وبالاعتماد على مبدأ الانتخاب أو الاصطفاء الطبيعيla seletion naturelle الذي يعتمد على اللياقة ،ويعتبر أن الكائن الحي كلما كان أكثر لياقة وقدرة على التكيف بالنسبة لشروط بيئته،كلما زاد النسل الذي ينجبه،ذلك النسل القادر على الحياة إلى عمر ينجب فيه هو الآخر نسلا له ،وبكلمة موجزة :يعتبر داروين أن كل أنواع الحياة الحاضرة هي عبارة عن فروع شجرة عائلية ارتقائية عظيمة.
وفي عام 1830 تم حل لغز التكاثر البيولوجي مع "ميتاس سليدن" وعالم الحيوان'تيودور شوان' أن هذه الخلايا الدقيقة هي الوحدات الأساسية للحياة ،بمعنى أن كل جسم حي يرى بالعين المجردة يتكون من مجموعة من بلايين الخلايا،وفي أواخر القرن التاسع عشر طرأ تحسين كبير على تصميم المجاهر مما أتاح دراسة مكونات الخلية ذاتها(أي دراسة عضيات الخلية)،وخاصة نواة الخلية ومكوناتها وفي طليعتها الصبغياتles chromosomes ،وفي عام 1865،وُلدت الدراسة العلمية لعلم الوراثة على يد ماندل ،خاصة التي كانت تهدف إلى توضيح كيفية توزيع هذه الصفات الوراثية على الأجيال الجديدة،واتضح آنذاك:أن كل كائن ينقل إلى نسله مجموعة من الوحدات الوراثية المسماة 'الجينات genes '،وكل جين يحدد صفة منفردة ،لذا فإن المظهر الإجمالي للكائن يكون محكوما بإجمالي الجينات.
وفي عام 1900 أعيد اكتشاف ماندل بالإضافة إلى اكتشاف تغييرات مفاجئة ودائمة يمكن حدوثها في الجينات أُطلق عليها اسم الطفرات،والتي تؤدي إلى حدوث تغيير في الصفة الوراثية المعينة التي يحددها الجين ،كتغير لون الزهرة من الأحمر إلى الأبيض.ونتيجة لما سبق حدث تقدم كبير بالنسبة لمجال فهم الحياة:فعلى الستوى النظري يمكن أن نعتبر أن التغير الفجائي للجينات هو المصدر الرئيسي للتجديد البيولوجي،والمحرك الذي يقود عملية التطور،ويوضح أن الاصطفاء الطبيعي إنما ينتخب في الواقع الكائنات التي تحمل جينات جديدة أو تركيبات جديدة من الجينات التي تعطي لياقة وصلاحية أكثر للتكيف[2].
أما على المستوى العملي فقد أدى علم الوراثة إلى مزايا عظيمة،ففي مجال الزراعة أمكن إنتاج أنواع ممتازة من النباتات والحيوانات الأليفة ذات القيمة الاقتصادية العالية،وفي مجال الطب أدى التعرف على دور الجينات في كثير من الأمراض إلى استحداث وسائل الوقاية من هذه الأمراض وعلاجها.
ثم سرعان ماظهر علم تحسين النسل والذي لا يهدف فقط دراسة التطور المفترض في المخزون البشري ،بل يتعداه إلى تحسين الصفات الجسمية والفكرية للأجيال المقبلة.
ولقد أدى النجاح العظيم في تقدم علم الوراثة إلى جعله يعتلي قمة العلوم البيولوجية في النصف الأول من القرن العشرين،ومنذ عام 1944 تم اكتشاف ADN والذي لعب دورا كبيرا في تطوير هذا العلم والمضي به حثيثا إلى الأمام.