النظريات السكانية
2. النظريات الطبيعية
النظريات الطبيعية في علم السكان:
تمهيد: شكل الإخفاق الذي صاحب النظرية المالتوسية، وعجزها عن إدراك وتفسير النمو السكاني الحاصل بشكل صحيح وكامل، دافعا قويا لظهور نظريات جديدة تسعى لتفسير الواقع الجديد للمشكلة السكانية، وهي النظريات التي يمكن تشطيرها عموما لثلاثة اتجاهات كبرى، أولها وتسمى بالنظريات الطبيعية أو بالبيولوجية، وتقوم أساسا على الاعتقاد بأن ما يتحكم في وتيرة النمو السكاني، هو طبيعة الإنسان بوجه عام وطبيعة العالم الذي يعيش فيه. وطبقا لهذا التصور، فإن سيطرة الإنسان على نموه يعتبر أمرا سطحيا للغاية، وهو الاتجاه الذي ساد في كتابات كل من: دبلداي ،هربرت سبنسر، كوارد جيني، سادلر وآخرون غيرهم.
1- نظرية دبلداي (1870-1709) : Doubleday يذهب دبلداي في كتابه القانون الحقيقي للسكان المنشور في سنة 1837 ، إلى أن زيادة التغذية تؤدي إلى تناقص القدرة الإنجابية للسكان، ما يعني أن هناك علاقة عكسية تربط ما بين الموارد الغذائية والزيادة السكانية، وأنه كلما تحسنت موارد الغذاء أبطأت الزيادة السكانية. كما أن تكاثر السكان يكون أكبر لدى الطبقات الاجتماعية الفقيرة، ويتناقص بين الأثرياء في حين يحافظ على حجمه فيما يتعلق بالطبقات المتوسطة. وعلى الرغم من الرواج الذي لاقته هذه النظرية حتى عهد قريب، حتى أن واحدا مثل جوزيه دي كاسترو قد وجد أن قلة البروتين في الغذاء تؤدي إلى زيادة النسل، الأمر الذي يترتب عليه أنه إذا أردنا أن نقلل من زيادة السكان في بلد ما فيجب أن تزيد نسبة البروتينات في الغذاء سكان ذلك البلد، إلا أنها انطوت هي الأخر على مجموعة من نقاط الضعف، والتي منها نذكر:
- لم يفرق دبلداي بين القدرة على الإنجاب وبين النمو الفعلي للسكان .
- قوله "إن أشد الناس قدرة على التناسل أشدهم بؤسا، وأن قوة الإنجاب تميل إلى التناقص الذي ينجم عن كثرة الغذاء"، أمران لا تسندهما أية حقائق علمية ولا يمكن الجزم بهما بالمطلق، وهو ما يجعلهما غير واقعيان.
2- نظرية سادلر: 1835- 1780يعتبر Sadler مصلحا اجتماعيا كما كان من رجال الاقتصاد المعاصرين لمالتوس، والذي أبان عن اهتمام جلي بالمسألة السكانية ترجمه في كتابه الصادر في عام 1830 والمسمى بقانون السكان، والذي ذهب فيه إلى التسليم بأن القانون الطبيعي المتحكم في عملية التناسل، يختلف جذريا عن القانون الذي أخذ به مالتوس، وأن الميل البشري إلى الزيادة يتناقص كلما زاد الحجم السكاني، وهو ما يعني أن التكاثر عملية تتحكم في نفسها بنفسها، وأن العوامل البيولوجية تتدخل في حماية المجتمع الإنساني من التضخم، وهي الفكرة التي يصدقه قوله: "أن قدرة الإنسان على التناسل تتناسب عكسيا مع عدده"... كما يعتقد سادلر أن الزيادة في السكان لا تتأثر بالبؤس والرذيلة كما أعتقد مالتوس، و إنما تتأثر بالسعادة والغنى بين أفراد المجتمع، فالعمل على الحرمان من الترف يشجع على التناسل وذلك بتنمية القدرة عليه، وأنه في كل واحدة من مراحل الرقي الإنساني، وتحول المجتمعات من مراحل الصيد والزراعة، إلى الصناعة والتكنولوجيا الحديثة ينقص تدريجيا عدد السكان، إلى أن يقف عند نقطة محددة يبلغ فيها عدد كبير من السكان درجات عالية من الرفاهية . ورغم التفاؤلية التي طبعت أفكاره، إلا أنها مع ذلك لم تخلو من العيوب مما عرضها لوابل من الانتقادات، أبرزها:
أ. إهمالها لدراسة كل الحقائق المعروفة عن نمو السكان، من ذلك مثلا أن الصينيين والهنود... يعدون من أكبر الشعوب مقدرة على التناسل، ولكنهم يعانون في الوقت عينه كثرة السكان الخطيرة.
ب. لم يفرق بين القدرة على الإنجاب والنمو الفعلي للسكان، إذ أن القدرة على الإنجاب قد تكون كبيرة، ومع ذلك قد يكون النمو الفعلي للسكان قليلا، بسبب كثرة حالات الوفيات على سبيل المثال.
3- هربرت سبنسر(1850- 1903): فيلسوف ومفكر انجليزي اشتهر بفكره الاجتماعي المرتكز على التفسير البيولوجي، كما هو واضحا في مؤلفه الموسوم باسم الأسس البيولوجية، والذي ضمن إياه آرائه ضمن فلسفة التركيب واتجاهات السكان التي وضعها عام 1854 ، حيث يرى سبنسر أن هناك تعارض قائم بين الفردية والتكوين، أي بين اهتمام الإنسان بنفسه وقدرته على الانسلال، حيث أن تعقد الحياة الاجتماعية والتنظيم الاجتماعي، يتطلبان من الإنسان أن يبذل جهود إضافية للمحافظة على حياته الذاتية، وأن ذلك يستوجب استهلاك نسبة كبيرة من الطاقة الفسيولوجية المتيسرة للجنس، في الأنشطة المرتبطة بالتطور الشخصي والتعبير، ومن ثمة يتبقى له قدر ضئيل من هذه الطاقة من أجل مصالح وأنشطة التناسل، وذلك ما يؤدي أليا إلى خفض قدرته على التوالد، فكلما زاد الجهد الذي يبذله الإنسان لضمان تقدمه الشخصي في بعض الميادين: كالعمل، التعليم وغيرهما، تراجع اهتمامه بالتكاثر لاسيما لدى النساء، لأن ذلك يتطلب منهن وقتا وطاقة ويصيبهن بالضعف، وهذا يؤدي إلى التقليل من الزيادة السكانية، لأنه يصاحب التطور الاجتماعي الذي تظهر فيه النزعة الفردية بشكل واضح. كما يذهب سبنسر إلى أن الزيادة الغذائية تؤدي إلى زيادة الإقبال على الانسال، وأن زيادة السكان تمثل السبب الأساسي لرقي الشعوب وتطورها، فزيادة السكان تدفع الإنسان إلى الأمام، وأن الضغط السكاني فيرأيه يمثل عاملا ايجابيا، لأنه يحث أكثر على استغلال الموارد المتاحة. لكن هذه الجهود لم تخلو هي الأخرى من العيوب، والتي كان أبرزها:
أ. سعيه الحثيث لصياغة نظرية سكانية، تنسجم مع نظريته العامة حول التطور البيولوجي، غير أن الحياة لا تنطوي على ذلك الترابط الجميل الذي كشفه في نظريته، وأنه إذا كان هناك تنافر بين التناسل والنضج الذاتي للأفراد فهو ذو أهمية قليلة بكل تأكيد.
ب . حرصه على تدعيم نظريته بشواهد واقعية، لم تكن كافية ولا ممثلة لجميع الاحتمالات أو شاملة للعوامل المختلفة المتداخلة التي تؤثر على السلوك الإنجابي، مغفلا في ذلك عددا أخر من الشواهد التي تدحض نظريته، ومن ذلك مثلا أن معدلات الخصوبة المتناقصة ليست نتاجا للتغيرات الفسيولوجية فقط، بقدر ما تكون أيضا نتيجة لتضافر مجموعة أخرى من العوامل، كالالتجاء لاستخدام وسائل حديثة لتحديد النسل، أو النظام القيمي والثقافي السائد في المجتمع...
ت . تأثير تعليم المرأة في قدرتها على التناسل وإن كان حقيقية أكدتها العديد من الدراسات، إلا أنه تبقى هناك عوامل اجتماعية عديدة غير التعليم تؤثر في قدرة على التناسل، ذلك أن المرأة التي نالت قسطا كبيرا من التعليم، لا بد أن تكون قد تجاوزت أهم فترات خصوبتها والتي تمتد عادة ما بين 30-20 سنة.
4- نظرية كوارد جيني (1884-1965):يعد كوراد جيني Corrad Gini مفكر اجتماعي ايطالي، اهتم بدراسة التغير السكاني باعتباره مؤشرا على التغير الساري في المجتمع، في كتابه "أثر السكان في تطور المجتمع" الصادر سنة 1912 ، والذي أوضح فيه وجود علاقة بين تطور المجتمع، وبين ما يحدث فيه من متغيرات مرحلية في النمو السكاني، أي أنه كان يرى أن العامل السكاني يعمل بصورة ما على تغير طبيعة السكان، وهي التغيرات التي تختلف بصورة أو بأخرى باختلاف الطبقات الاجتماعية فيه.
وقد أنبنى تصوره هذا على أساس أن التطور الاجتماعي يشبه حياة الفرد، والذي يبتدئها بمرحلة النشأة ثم مرحلة التقدم ليدركها التدهور في الأخير، مفترضا أنه في كل مرحلة من مراحل تطور وتغير المجتمع، تتميز بخصائص محددة تميز نمو السكان ونتائج تترتب على هذا النمو، وتؤثر في مختلف جوانب المجتمع البيولوجية والمورفولوجية، والاقتصادية وغيرها، حيث تتميز المجتمعات في مرحلة تكوينها ونشأتها بزيادة الخصوبة، أما في المرحلة الثانية وهي مرحلة التقدم فإن المجتمع يكون مكتظا بالسكان لذلك تبدأ الهجرة من هذا المجتمع. غير أن هذا التصور الذي صاغه كوارد جيني لم يخلو هو الأخر من الانتقادات والتحفظات التي سيقت ضدها، والتي من بينها نذكر ما يلي:
أ. يعتقد جيني بوجود قوة طبيعية تحدد عدد السكان بالزيادة أو النقصان، وتظهر هذه القوة في العمليات البيولوجية، ونقص القدرة على التناسل، وقد أثبتت الدراسات العلمية الحديثة خطأ التفسير استناد إلى طبيعة غامضة لا يستطيع الإنسان التحكم فيها وضبطها.
ب . استمد جيني رؤيته فيما يتعلق باتجاه الزيادة السكانية أو نقصها، انطلاقا من دراسته لتاريخ بعض الأمم القديمة كاليونان والرومان، وهو ما لا يمكن اعتباره تعميما باعتبار أن بعض الشعوب الأخرى كالهند والصين كانت لها اتجاهات مغايرة لذلك.
ت . تتسم بعض المجتمعات بدرجات عالية من الخصوبة، لا يمكن التمييز فيها بين خصوبة طبقة اجتماعية عن طبقة أخرى، كما هو الحال بالنسبة للمجتمعين الصيني والهندي.
ث . العوامل التي تؤدي إلى التقليل من النمو السكاني عديدة وليست هي فقط الحروب والهجرة، ومن بينها نجد الإجهاض، الأوبئة، المجاعات، ارتفاع نسبة الوفيات... وهي عوامل لم يلتفت لها جيني، وقد يؤثر ظهورها في سير تطور المجتمع في اتجاه يختلف كليا عن الاتجاه الذي تصوره.