قياس الذكاء(مفهومه وتطورات قياسه)

3. النظريات المعرفية

 في الوقت الذي تركز فيه النظريات السيكومترية على بنية الذكاء البشري، نجد النظريات المعرفية تركز على العمليات التي ينطوي عليها الذكاء البشري. ونستعرض البحوث والنظريات التي تتضمن العمليات المعرفية البسيطة إلى الأبحاث التي تنطوي على العمليات المعرفية المعقدة.

أ- القياس الحسي البسيط:

     يعتقد المدافعون عن القياس الحسي البسيط أن الأفراد الأكثر ذكاءً يكونون أكثر قدرة على القيام بعمليات تمييز حسية جيدة، مثل التمييز بين الارتفاعات، أو الأوزان ذات القيمة المماثلة. وكان هذا واضحا في العمل المبكر لسبيرمان (1904b). يعتقد آخرون أن الأفراد الأكثر ذكاء سيكون لديهم طول القامة وقدرات جسدية فائقة (تيرمان، 1925). والاهتمام المبكر لمنهج القياس الحسي البسيط للذكاء بدأ بأعمال غالتون، متأثرا بنظرية داروين في أهمية الفروق الفردية في التكيف والتكاثر البيئي، فجاء على إثرها تركيز غالتون على الفروق الفردية في القدرة الطبيعية، ويرى أن أولئك الذين يتمتعون بقدرة طبيعية أكبر سيكونون بارزين في مجالات دراستهم، بينما أولئك الذين لديهم قدرة طبيعية أقل سيخفقون. ويعتقد بانتقال الذكاء عن طريق الوراثة واختلاف الأجناس ذكاءهم، وأن تحسين النسل أو التكاثر المخطط، يمكن استخدامه لتحسين "ذكاء" أمة ما.

في الولايات المتحدة، دافع جيمس ماكين كاتيل عن أفكار غالتون. حيث بدأ برنامجًا لأخذ قياسات بسيطة من الطلاب في الفصل الدراسي الأول من كل عام (Cattell & Farrand, 1896) بجامعة كولومبيا. وتتكون من 21 قياس، وشملت أشياء مثل قوة اليد، حدة البصر، وزمن رد الفعل. لكن طالب الدراسات العليا كلارك ويسلر، أجرى دراسة للتحقق من صحة تعلق درجات الطلاب في جامعة كولومبيا بالقياسات الحسية البسيطة. ولم تكون نتائج ويسلر (1901) مشجعة للغاية. حيث وجد أن درجات الطلاب تميل إلى الترابط مع بعضها البعض، ولكن ليس مع بيانات الاختبارات الحسية البسيطة التي تم جمعها. أنهت دراسة Wissler إلى حد كبير الاهتمام المبكر بالتدابير الحسية البسيطة كمؤشر للذكاء.

ب-زمن المعاينة:

      طرح Douglas Vickers زمن معاينة الفقرة (Inspection time-IT) نحو عام 1970 على أنه محدد أساسي للمعدل الذي يمكن على أساسه تجميع المعلومات الخارجية لاتخاذ القرار في مخازن حسية مؤقتة (ستيرنبيرج و كوفمان، 2015). ويشير زمن المعاينة إلى مدة التعرض المطلوبة من شخص ما لتحديد تأثير بسيط. وهي أيضا مدة التحفيز المميزة التي يحتاجها الفرد من أجل اتخاذ قرار بمستوى معياري دقيق.

    وبالرغم من استخدام إجراء زمن المعاينة في سياقات بحثية أخرى، إلاَّ أنَّ الاستخدام الأكثر شيوعًا كان في مجال الذكاء، حيث تم استخدامه لاختبار إمكانية أنّ الفروق الفردية في الذكاء المقاس قد تتعلق بالفروق الفردية في زمن المعاينة ( Deary & Stough , June 1996) والفكرة المتعلقة بسرعة تناول المعلومات البصرية قد تكون ذات صلة بالفروق في القدرات العقلية الأكثر عمومية التي حدثت لــ McKeen Cattell حين كان يعمل في مختبر Wundt ومع ذلك لم يتم متابعة هذه الفكرة في أي برنامج بحثي منتظم. ويعد Vickers المسؤول الأول عن صياغة نظرية زمن المعاينة، إلا أن Nettelbeck كان أول من قام بفحص العلاقة بين زمن المعاينة ونسبة الذكاء. حين كان طالب دكتوراه عند Vickers في جنوب استراليا

( Deary & Stough , June 1996) وانطلاقا من الاقتراح القائم على أن الفروق في القدرات العقلية يمكن أن تعزى إلى السرعة التي تشتغل بها هذه القدرات في بعض من آليات البحث والتحليل، قام كل من Nettelbeck et Lally (1976) et Lally et Nettelbeck (1977)) بفحص العلاقة بين زمن المعاينة ونسبة الذكاء على مقياس وكسلر للراشدين، ووجدت قيمة الارتباط بين زمن المعاينةIT ونسبة الذكاءIQ تتراوح ما بين –0,8 و –0,9. لذلك تعد هذه الدراسة أول الأعمال التي أظهرت وجود علاقة بين الفروق الفردية في زمن المعاينة المقاس والذكاء النفسي. وفي مراجعة شبه كمية لــــ Nettelbeck 1987 استنتج أن زمن المعاينة يمثل حوالي 25% من تباين نسبة الذكاء، ونقول بمعنى آخر أن الارتباط بين زمن المعاينة والذكاء النفسي بلغ نحو–0.5 لدى عموم الناس (Deary & Stough , June 1996).

ج- زمن الرجع البسيط/ الاختياري: بعض المؤلفين افترضوا بأن "السرعة العقلية" «vitesse mentale»، تعتبر خاصية أساسية تؤثر على جميع العمليات المعرفية، ويمكن لها أن تفسر الفروق في الأداء التي تكمن في عامل g. ولاختبار هذه الفرضية استخدموا نموذجين تجريبيين رئيسين زمن المعاينة (تطرقنا إليه أعلاه) ونموذج زمن الرجع الذي كيَّفه (Jensen, 1982 Lautiry، 2005). سيتم عرض هذا النموذج ومناقشته هنا. لقد دافع آرثر جنسن عن نموذج أكثر تعقيدًا قليلاً للتحقيق في العلاقة بين العمليات المعرفية الأولية والذكاء: وقت رد الفعل البسيط / الاختياري. ويقصد بزمن الرجع بالزمن المنقضي بين بداية المنبه وبداية الاستجابة، هناك نوعان رئيسيان منه، الأول زمن الرجع البسيط وفيه يطلب من المفحوص الاستجابة بأسرع ما يمكن عند تقديم المنبه الضغط على زر معين عند ظهور الضوء. والثاني زمن الرجع الاختياري، حيث يعرض على المفحوص منبهان ويطلب منه الاستجابة بطريقة معينة للمنبه الأول وبطريقة أخرى للمنبه الثاني ويمكن أن تتزايد بدائل الاستجابة بحيث تكون ثلاثة أو أربعة (طه، 2006). ولخص إيزنك نتائج مناقشة جينسن للتراث بما يشمله من أعماله وأعمال زملائه في النقاط التالية (طه، 2006).

-أظهر زمن الرجع البسيط ارتباطا منخفضا بالذكاء يتراوح بين-0,2 إلى–0,3.

-أظهر زمن الرجع البسيط ارتباطا بالذكاء يمكن اهماله.

-أظهر زمن الرجع الاختياري ارتباطا أكثر جوهرية من زمن الرجع البسيط بالذكاء.

-يتزايد الارتباط بين زمن الرجع وبين نسبة الذكاء مع تزايد عدد الاختبارات المستخدمة.

-يرتبط تباين زمن الرجع ارتباطا سلبيا بالذكاء.

-ترتبط مهمة زمن الفحص ارتباطا دالا سالبا بالذكاء.

د-الذاكرة العاملة: يذكر1974 Baddeley & Hitch أن الذاكرة العاملة عبارة عن أنظمة تخزين خاصة وظيفتها تخزين المعلومات اللفظية، تسمى هذه الأنظمة (المكون اللفظي) بالإضافة إلى أنها تحتوي على أنظمة أخرى خاصة بمعالجة المعلومات تسمى المعالج المركزي، وفي عام 1992 أضاف "بادلي" مكونا آخر أطلق عليه المكون (غير اللفظي) وظيفته معالجة الصور المكانية والبصرية وإدراك العلاقات المكانية، وتعمل هذه المكونات في تكامل وانسجام وتناسق (بلبل و حجازي، 2016)قياس الذاكرة العاملة يتم عادة بالمهام التي تتطلب التشفير والتخزين والتذكر والتعرف على المثيرات، ويتم تفعيل قدرة الذاكرة العاملة عن طريق عدد المفردات التي يستطيع الفرد حفظها في الذاكرة العاملة، ويقدر متوسط القدرة على الحفظ بأربع مفردات، حيث تتنوع في الناس ما بين مفردتين إلى ست مفردات (Chuderski, 2013).

و-نموذج الترابطات المعرفية: أفضل ما يميز مقاربة الترابطات المعرفية هي أعمال Earl Hunt وزملائه (Hunt, Frost et Lunneborg, 1973; Hunt, Lunneborg et Lewis, 1975; Hunt et Lansman, 1975; Hunt, 1976, 1978).  ويدخل هذا البحث في سياق نموذج عام للذاكرة يصور تدفق المعلومات من خلال سلسلة من المخازن الحسية إلى ذاكرة قصيرة المدى، ثم من خلال ذاكرة متوسطة المدى إلى ذاكرة طويلة المدى. هناك نظام تنفيذي يتحكم في تدفق المعلومات والوصول إلى مستويات مختلفة من تخزين الذاكرة (هانت، 1971، 1973). مع هذا النموذج كإطار مرجعي، طرح هانت سلسلة من الأسئلة حول الاختلافات بين مجموعات القدرة اللفظية العالية والمنخفضة التي ترتبط بالهياكل والعمليات والمعايير الخاصة بنظام معالجة المعلومات.

كان الهدف من هذا العمل هو إظهار أن الذكاء اللفظي الذي يتم قياسه بالوسائل التقليدية مرتبط بمتغيرات أساسية تمت دراستها في النظرية المعرفية الحديثة، لا سيما معلمات النماذج التي تصف تحويل المعلومات في الذاكرة القصيرة والطويلة الأجل. بشكل عام، يستنتج هانت وزملاؤه أن اختبارات الذكاء اللفظي تستفيد مباشرة من معرفة الشخص باللغة، مثل معاني الكلمات، القواعد النحوية، والعلاقات الدلالية بين المفاهيم التي تشير إليها الكلمات، وأن هذه الاختبارات أيضا تقيم بشكل غير مباشر قدرات معالجة المعلومات التي تعتبر عناصر أساسية في الدراسات التجريبية للذاكرة (Gardner, 2011).

ي-مدخل المكونات المعرفية: يستخدم مدخل المكونات المعرفية تحليل المهام كوسيلة لتحديد مكونات تناول وتجهيز المعلومات التي يتطلبها الأداء على مفردات الاختبارات العقلية المقننة، ثم يقيس مقدار الفروق الفردية في هذه المكونات حسب Sternberg1977 (الشيخ، 2014) فالباحثون في هذا المدخل يهدفون إلى تحليل العمليات المتضمنة في النشاط العقلي للإنسان بشكل مباشر، بدل من البحث عن الارتباطات بين هذا النشاط والعمليات المعرفية. وقد ارتبط هذا المدخل باسم Sternberg، حيث أجرى في بحوثه تحليلا معرفيا لعدد كبير من المهام السيكومترية وبصفة خاصة مهام الاستقراء والاستنباط. وفي هذا الإطار يميز ستيرنبرغ بين ثلاثة أنواع من العمليات المعرفية الرئيسية، ويعتبرها المصدر الأساسي للفروق الفردية في الذكاء وهذه الأنواع هي (الشيخ، 2014)

أ-ما وراء المكونات: هي عمليات تحكم "ضبط" ذات مستوى أعلى، وهي عمليات تنفيذ تُستخدم في تخطيط أداء الفرد في المهمة، والتهيؤ أو التوجيه له، وتقويمه. ويشير ستيرنبرج إلى عشرة عمليات مهمة من هذا النوع.

ب-مكونات الأداء: عبارة عن عمليات معرفية ذات مستوى أدنى، تستخدم في تنفيذ الاستراتيجيات المختلفة لأداء المهمة.

ج-مكونات اكتساب المعرفة: وهي عمليات متضمنة في تعلم معلومات جديدة وتخزينها في الذاكرة.

ر-سرعة المعالجة والشيخوخة:

  يعرض الذكاء السائل والمتبلور مسارات مختلفة من التطور في مرحلة البلوغ. تزداد قدرة السائل خلال فترة المراهقة، ويصل إلى قمته في أوائل إلى منتصف العشرينات، ثم تنخفض بعد ذلك. في المقابل، تزداد القدرة المتبلورة حتى أوائل الأربعينيات، وغالباً ما تظل مرتفعة إلى وقت متأخر من مرحلة البلوغ. وبالنظر إلى أن القدرة المتبلورة تمثل منتجات التعليم والتثاقف، فإن نموها البطيء يمكن فهمه على أنه التراكم التدريجي للمعرفة. ولكن ما الذي يمكن أن يفسر الانخفاض في الذكاء السائل التي تحدث خلال منتصف العمر وما بعده (Gardner، 2011).

يقترح (Timothy Salthouse 1985, 1993, 1996) أن الانخفاض في قدرة السائل، والوظائف العقلية المماثلة هو نتيجة لتباطؤ سرعة المعالجة للعمليات المعرفية مع الشيخوخة. ويربط هذا التباطؤ إلى آليتين أساسيتين لضعف الأداء: (1) الآلية الزمنية المحدودة، و (2) آلية التزامن. ووفقاً لآلية الزمن المحدودة فإن وقت إجراء العمليات اللاحقة مقيد إلى حد كبير عندما تشغل نسبة كبيرة من الوقت المتاح من خلال تنفيذ العمليات المبكرة. تنص آلية التزامن على أنه بسبب التباطؤ قد تفقد منتجات المعالجة المبكرة بحلول الوقت الذي تكتمل فيه المعالجة. نتيجة كل من هذه الآليات هو انخفاض في الأداء، ليس فقط في السرعة، ولكن أيضا في الدقة مع تقدم السن (Gardner، 2011).

بالرغم من أن نظرية Salthouse لا تشرح الذكاء في حد ذاته، إلا أنها تقدم تفسيراً للانخفاض في قدرة السائل خلال الحياة. ويشير أيضا إلى عامل مهم يجب مراعاته عند تصميم التعليم والتدريب لكبار السن: وهي سرعة المعالجة. فعند تقديم المعلومات إلى جمهور أكبر سنًا، يجب على المرء أن يقوم بتسوية السرعة البطيئة التي يمكن تشفير وتحليل المنبهات بها، وإمكانية ألا يكون لدى الأفراد الأكبر سنا في وقت واحد إمكانية الوصول إلى معلومات مختلفة مثلما يفعل المتعلمون الأصغر سنًا.

 

3-