مظاهر حضارة بلاد الرافدين

1. القوانين والتشريعات

يمكن تقسيم الشرائع المدونة في بلاد الرافدين إلى ما يلي:

1- إصلاحات أوركاجينا:

يعد أوركاجينا أقدم مشرع ومصلح اجتماعي في التاريخ، ويعتبر الحاكم الثامن من سلالة لجش الأولى وآخر حكامها، فقد حكم مدة ثمانية سنوات ( 2378 – 2370)، وقد وصفته إحدى الوثائق المسمارية بأنه حاكم صالح يخاف الآلهة وأنه أعاد حرية المواطنين الذين عانوا المظالم الكثيرة.

  وقد وصلت إلينا هذه الإصلاحات مدونة بالخط المسماري و باللغة السومرية على ثلاث مخاريط فخارية وعلى لوح فخاري بيضوي، اكتشفت في مدينة لجش من قبل البعثة الفرنسية وذلك عام 1878، وقام بدراستها الباحث الفرنسي "فرنسوا ثورو- دانجان" (Fransothwro-Dangin)، وتحتوي إصلاحات هذا الملك على ثلاثة نصوص يبدأ النص الأول بالمفاخرة بأعمال أوركاجينا، من خلال ذكر ما قام به من تشييد وتعمير لاسيما بناء معبد الإله "باو" (Bau) والإلهة "ننكرسوا"(Ningrsu)، وهما ألهتا مدينة لجش المحلية، وبعد ذلك يبدأ النص بذكر ما تعاني منه البلاد من أوضاع صعبة وفساد مسؤولين.

وقد جاء النص الثالث من إصلاحات أوركاجينا مشابهة لما جاء في النصيين الأول والثاني، غير أنه يحتوي على عقوبات أصدرها الملك أوركاجينا على أنواع من الجرائم كانت شائعة في ذلك الوقت مثل السرقة، وتكون عقوبتها الرجم بالحجارة، أما المواد المسروقة التي يعثر عليها فإنها ترفع أو تثبت على باب كبير ربما للإشهار بتلك الحاجيات التي سرقت بغية مشاهدتها من قبل صاحبها ومن ثم المطالبة بها.

 وتقع كذلك عقوبة الرجم على المرأة التي تتزوج رجلين في وقت واحد، أما المرأة التي تتطاول على الرجل بعبارة لا يجوز لها قولها فيكون عقابها هو سحق أسنانها بالطابوق المحترق.

 ويمكن القول أن إصلاحات أوركاجينا لا تعتبر من الشرائع التي ظهرت فيما بعد، وإنما تعد من الاعمال التي حاول من خلالها الملك أوركاجينا نشر العدالة بن الناس وردع الأقوياء ومنعهم من ظلم الفقراء.

   ولهذا فيمكن إطلاق صفة التنظيمات الإدارية التي كانت بمثابة الخطوة الأولى لظهور التشريعات والقوانين في مراحل

2- شريعة أورنمو:

   في عام 1952 استطاع عالم المسماريات صموئيل نوح كريمر من التعرف على لوح مسماري محفوظ في متحف الشرق القديم في اسطنبول يحتوي على أجزاء من الشريعة التي أصدرها الملك السومري "أورنمو" واللوح المذكور عثر في مدينة "نفر"، وبعد فترة من الزمن استطاع العالم نفسه وعالم مسماري آخر يدعى "كورني" أن يتعرفا على كسرتين لرقيم طيني من "أور" يحوي أجزاء أخرى من شريعة نفس الملك، وبعدها استطاع عالم المسماريات "فنكل شتاين" أن يقدم دراسة متكاملة عن شريعة أورنمو.

   وأورنمو هو الملك السومري الذي أسس سلالة أور الثالثة والتي عرفت باسمه، وبدأ عهده فيها حوالي (2050 ق.م.)، وأصبح ملكا على دولة سومر بتأسيس هذه السلالة التي عرف عصرها بعصر أور الذهبي، بسبب ما شهدته من تقدم ورخاء اقتصادي، وهو باني الزقورة الموجودة في أور.

   وتعتبر شريعة أورنمو من أقدم التشريعات المكتوبة في العالم كله،  وكتب بالخط المسماري باللغة السومرية، وقد عثر كما أشرنا سابقا على نسخة من شريعة أورنمو في مدينة "نفر""نيبور"(Nippor) على شكل لوح من الطين وفي حالة سيئة، وكان هذا اللوح الطيني المجفف بالشمس بلون أسمر فاتح والكتابة التي احتوتها تحطم أكثر من نصفها، وقسم الكاتب القديم هذا اللوح إلى ثمانية أعمدة، أربعة منها في الوجه الأول والأربعة الأخرى في الوجه الآخر، واحتوى كل واحد من هذه الأعمدة على خمسة وأربعين جزءا صغيرا، والجزء الأكبر من الكتابة التي في لم تكن واضحة، وقد تمكن الباحثون من قراءة خمس مواد من الشريعة وجزء من المقدمة في هذا اللوح، بينما تمكن الباحثون من قراءة ما يزيد عن اثنين وعشرين مادة من الشريعة في اللوح الذي عثر عليه في مدينة أور.

   ويعتبر وجود نسخ من الشريعة في أكثر من مدينة دليل على أن هذه الشريعة قد أخذ العمل بها وطبقت قوانينها في المدن التي خضعت لسيطرة وحكم أورنمو.

   ويعتقد أن مجموع مواد شريعة أورنمو كانت أكثر من ثلاثين مادة، وتحتوي الشريعة في شكلها الكامل على مقدمة ونصوص المواد والخاتمة.

وتتناول مواد الشريعة قضايا الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والخطوبة والخيانة والاغتصاب، وكذلك هروب الرقيق والاعتداء على الأشخاص وشهادة الزور وعقوبتها والاعتداء على الأراضي وبقية الأمور ذات العلاقة بالزراعة.

3- شريعة أشنونا:

تنسب شريعة أشنونا إلى الملك" بلا لاما" رابع ملوك المملكة، وقد عاش هذا الملك في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، وكانت مملكة أشنونا في ذلك العهد مستقلة وظلت كذلك حتى أواخر أيام حمورابي، حيث قضى على استقلالها في عامه الثاني والثلاثين وضمها إلى إمبراطوريته.

وقد تطرقت شريعة أشنونا في موادها إلى قضايا مهمة ومختلفة في المجتمع منها تحديد الأجور والأسعار(التسعيرة)، وهذه الفكرة لم نجدها في بقية الشرائع بأسلوب الذي وجدناه في شريعة أشنونا، واهتمت كذلك بالعقوبات حيث جمعت في مجموعة من موادها بين القصاص والدية أو التعويض، فأقرت مبدأ عقوبة القتل على القاتل ومبدأ الدية على الجروحالتي تؤدي إلى الموت،وفضلا عن ذلك فقد اهتمت شريعة أشنونا بتنظيم العلاقات الأسرية مثل شروط الزواج والعقود التي تبرم لذلك والمهر و الطلاق، وما تشمله التجارة من معاملات.

-شريعة لبت عشتار:

   تنسب هذه الشريعة للملك لبت عشتار، خامس ملوك سلالة أسين، والذي حكم في النصف الأول من القرن التاسع عشر قبل الميلاد (1943 ق.م.- 1924 ق.م.)،  وتعتبر هذه السلالة من أهم السلالات التي حكمت بعد سلالة أور الثالثة وبداية العهد البابلي القديم، والطابع الذي تغلب عليها هو الحضارة السومرية ولذلك دونت هذه الشريعة باللغة السومرية، رغم أن مقننها سامي الأصل وليس سومريا وهذا في الواقع دليل على أن السومريين لا يزالون يمثلون أغلبية سكان وادي الرافدين زمن تدوين هذه الشريعة.

 وقد تم الكشف على هذا التشريع وهو مدون على كسر من الألواح الطينية، يبلغ عددها سبع، تحتوي على جزء من المقدمة والخاتمة، أما المواد التي تضمنتها هذه الألواح فهي سبعة وثلاثون مادة وهو كل ما تم التعرف عليه، وقد عثر عليها من طرف بعثة جامعة بنسلفانيا في مدينة "نفر" في السنوات الأولى من بداية القرن العشرين، ونشرت نصوصها لأول مرة سنة 1947.

5- شريعة حمورابي:

   اكتشفت مسلة شريعة حمورابي في مدينة سوسة عاصمة بلاد عيلام ( قلعة الشوش حاليا في جنوب غرب إيران)، بين سنتي 1901 – 1902 على يد البعثة الأثرية الفرنسية برئاسة عالم الآثار جاك دي مورغانj- de morgan ، وكان أول مننشر بحثا عن المسلة العالم الفرنسي الأب شايل v. scheil في عام 1902،ونقلت هذه المسلة من مدينة سيبار إلى سوسة من طرف الملك العيلامي " شتروك ناخونته" الذي غزا بابل حوالي 1171 ق.م.

إن مسلة حمورابي عبارة عن قطعة واحدة من حجر الديورايت الأسود بشكل شبه أسطواني، يبلغ طول المسلة 2025سم ومعدل قطرها في الوسط 60 سم، يحتل الثلث العلوي من وجه المسلة المشهد الفني المشهور الذي يصور الملك حمورابي واقفا أما الإله شمش، وقد تم نقشه وهو جالس على كرسي عرشه ويقوم بترديد القوانين على الملك حمورابي الواقف أمامه، وقفة المتعبد الخاشع رافعا يده بالصلاة وهي صلاة رفع اليد التي يطلق عليها في البابلية "نيش قاتي"(Nichq qati)، ويظهر الملك حمورابي في النقش يرتدي قلنسوة على رأسه.

 وقد رتبت مواد شريعة حمورابي في أربعة وأربعين حقلا، وكتبت باللغة البابلية وبالخط المسماري، وبلغ عددها 282 مادة، ومن المرجع أنها كانت تزيد عن 300 مادة، وبالرغم ما أصاب المسلة من تدمير فقد تم التعرف على ما تم محوه من مواد

خصائص ومميزات شريعة حمورابي:

   تعتبر شريعة حمورابي من أكمل وأنضج الشرائع الوضعية المدونة والمكتشفة لحد الآن، وقد اتسمت ببعض الخصائص والمميزات التي تميزها عن غيرها من الشرائع والقوانين الشرقية والغربية التي تزامن ظهورها معها وهي:

- تتميز شريعة حمورابي بأنها كتبت بأسلوب علمي راقي مشابه لأسلوب القوانين والشرائع الحديثة، وأنها لم تكتب بأسلوب شعري، كما تتميز موادها بوضوح عباراتها وصيغتها القانونية.

- تجاوزت الشريعة كل ما هو بدائي من الأحكام التي تخص الحالات الجنائية، من خلال وضع كل تلك القضايا ضمن اختصاصات الدولة والسلطة، وعدم فسح المجال

أمام الأشخاص الذين يرغبون في أخذ حقوقهم عن طريق الثأر والانتقام.

 -  مصدر الأحكام التي تضمنتها مواد شريعة حمورابي متعددة، فقسم منها أخذ من أعراف وقواعد قديمة متعارف عليها، وقسم آخر أخذ من ما كان يصدر من أحكام قضائية، وشملت أيضا على أشياء جديدة شرعها حمورابي نفسه بحيث أنها تتلاءم مع العصر الذي ظهر فيه ومع التطور الحاصل في العصور اللاحقة. 

- من الخصائص البارزة في شريعة حمورابي عدم تطرقها إلى العبادات و خلوها من الأحكام الدينية، فقد كانت أحكامها علمانية وتركت أمور العبادات وشؤونها للالتزامات الدينية التي كانت متبعة في ذلك الوقت.

- جاءت شريعة حمورابي في موادها ملمة بكل ما هو راقي ومتحضر، خاصة تلك المواد التي تتعلق بالتبني والأرامل، وجميعها مواد إنسانية تعي مشاكل المجتمع المهمة، كما شملت مواد شديدة الحزم وذات تأثير رادع لكل من يحاول ارتكاب جريمة أو خطأ يضر بمصلحة العامة.

- اعتمدت شريعة حمورابي على مبدأ العين بالعين والسن بالسن، واعتمدت في تطبيق أحكامها على ما هو موجود في المجتمع من طبقات، فالكل يحاسب ولكن عقوبته تكون حسب ما يتمتع به من مكانة اجتماعية.

- جاءت شريعة حمورابي بشكل عام بأحكام ومواد من أجل تحقيق العدالة بين الناس، ففيها أحكام صارمة لحماية الضعيف  من ظلم القوي، وجاءت بأحكام تحدد فيها أجور الأعمال وأسعار بعض الحاجيات الضرورية مثل القمح والزيت والصوف، وحدد أجرا رسميا للعامل أكثر مما كان يتقاضاه من قبل.

- أولت شريعة حمورابي أهمية كبيرة للأسرة وتماسكها، حيث منحت من خلال أحكامها مكانة كبيرة للمرأة، حيث حفظت لها حقها في حالة الطلاق ونظمت عملية الزواج ، وحددت له شروطه ونظمت أحكام الميراث.

- أقرت شريعة حمورابي ببعض حقوق طبقة العبيد مثل الزواج والتجارة والعمل والميراث